بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
اتفقت معظم الآراء العسكرية في الغرب وإسرائيل على أنّ الاغتيالات الإسرائيلية تكتيك استعراضي متهوّر جُرب كثيرًا وفشل كثيرًا. حسب هذه الآراء أيضًا فإنّ الاغتيالات الأخيرة لم تسترجع هيبة الردع الإسرائيلي ولم تُغيّر من ديناميات الصراع التي تبدلت بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول.
في هذا السياق اتجهت معظم التقديرات إلى استنتاج مفاده أنّ روادع اندلاع حرب يمتد شرر حريقها إلى الشرق الأوسط كله ما زالت أقوى من حوافزها. ركزت التحليلات على العوامل العسكرية والسياسية لردع إيران و”حزب الله” والتي اتصفت بصفة العصا والجزرة.
العصا في اليد اليمنى كانت إرسال الأساطيل وتحويل البحر المتوسط والأحمر والخليج بحيرة أمريكية وإرسال شحنات عسكرية إضافية لإسرائيل واستنفار القيادة الوسطي قواعد أمريكا المنتشرة في ١٤ بلدًا عربيًا وتنسيق قدرات “حلف النقب” للتصدي لأي هجمات كما حدث في أبريل/نيسان الماضي.
الجزرة في اليد اليسرى عبّر عنها البيان الثلاثي الذي ضغط بايدن لإصداره ويوحي – ضمنًا – أنه في مقابل امتناع إيران و”حزب الله” عن الرد أو جعله ردًا غير مؤثر سيتم السعي إلى تحويل الشهر الحالي شهر إنجاز للصفقة المزمنة بين “حماس” وإسرائيل لتبادل الأسرى ووقف الحرب في غزّة.
هذه روادع حقيقية، لكن هناك رادع لا يقل أهمية وهو الرادع الاقتصادي الذي يتمثل خصوصًا في الثروة النفطية التي ترقد عليها منطقة تساهم تقريبًا بنحو ثلث الإنتاج العالمي وتمتلك تقريبًا نحو نصف الاحتياطيات العالمية.
قيمة هذا العامل هي شموليته في بلورة مصلحة مشتركة وواحدة للجميع في تجنب الحرب حتى لأطراف الصراع المتواجهة الذين تتعارض مصالحهم واستراتيجيتهم فيها ومنها تعارضًا تامًا.
فهذا العامل هو رادع لإيران التي تقود محور المقاومة كما هو رادع للإمارات والسعودية والتي تقف على الضفة الأخرى في محور الاعتدال.
هو رادع للولايات المتحدة التي تنحاز كليًا لإسرائيل، كما هو رادع للصين وروسيا القوتين الدولتين الحليفتين استراتيجيًا لإيران وتربطهما علاقات تاريخية ومعنوية وثيقة بحركة التحرر الوطني الفلسطيني.
ورغم أنّ الأزمة الراهنة تمثّل نظريًا فرصة تاريخية لهما لزيادة حضورهما في الشرق الأوسط ومزاحمة الهيمنة الأمريكية شبه التامة على زعمائه وثرواته النفطية، فإنّ السلوك الصيني والروسي سار في اتجاه عكس هذه الفرصة وضغط على طهران لمنع التصعيد وضبط النفس.
إيران التي تُحسن بيعها للنفط، وهو المصدر الرئيس لدخلها الوطني خاصة من العملة الأجنبية بعد تخفيف نسبي للعقوبات في عهد بايدن، ستفكر ألف مرة قبل الوقوع في فخ نتنياهو الساعي لجرها – عبر إهانة كرامتها الوطنية باغتيال هنية على أرضها – لحرب إقليمية قد تعيدها إلى الصعوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضتها إدارة ترامب عليها وخفضت عملتها الوطنية وسحبت جزءًا من رصيد نظامها عند شعبها وطبقاته الفقيرة.
السعوديون أكبر منتج للنفط في العالم الذين يفضلون أن تخرج إيران مع حلفائها أضعف من هذه الحرب، لن يقبلوا أن يكون الثمن حربًا إقليمية تربك خطط ولي عهدهم الطموحة لوضع الرياض في مصاف العشرة الأوائل اقتصاديًا في العالم.
الصينيون لديهم مصلحة في منع “مارس” إله الحرب من ممارسة هوايته في الشرق الأوسط، فهم ثاني أكبر اقتصاد في العالم المستورد الأكبر للنفط الإيراني، وتحصل بكين عليه بسعر تفضيلي يقل عن السعر العالمي في ظل إجراءات المقاطعة الغربية على طهران. وهي تأمل أن تساعد هذه الإمدادات الإيرانية المستقرة والرخيصة كعامل من عوامل استعادة عافية اقتصادها الذي تأثر بأزمة القطاع العقاري المحلي وعقوبات واشنطن الدولية.
حتى روسيا التي قد يخفف عنها بعضًا من متاعب الحرب الأوكرانية أن تنخرط وتلتهي أمريكا في حرب تنشب بالإقليم لحماية إسرائيل، أرسلت الجنرال “شويغو” أمين مجلس الأمن القومي مؤخرًا لحث طهران على ضبط النفس وأرفقت عرضها بحافز تعهدت فيه بتوريد أسلحة روسية متقدمة تزيد حصانتها ضد أي هجمات مستقبلية.
لا يتعلق الأمر فقط بحقيقة أنّ روسيا من الثلاثة الأوائل في تصدير النفط بالعالم وأي اضطراب في إنتاجه وأسعاره سيؤثر سلبًا على أحد أهم نجاحاتها الديبلوماسية، وهو صيغة (أوبك-بلس) الذي يُضعف نسبيًا من تحكّم أمريكا في أسعار النفط، لكن يتعلق أيضًا بأنّ موسكو وربما بكين تتفقان مع التقدير الإيراني الذاتي لنفسها أنها ومحور المقاومة يحققون نتائج أفضل في الصراع مع إسرائيل، وبالتالي في تقليل هيمنة أمريكا على المنطقة عبر نموذج حرب الاستنزاف، وأنّ إيران ومحورها الذين يعدون في حسبة الصراع الدولي حليفًا استراتيجيًا لموسكو وبكين ما زالوا بعد غير جاهزين لمواجهة شاملة إذا خسروها سيعود الشرق الأوسط للحظة الهيمنة الأمريكية السافرة كما بدت مثلًا قبل عقدين في لحظة غزو العراق.
أما أكثر ما يخشاه ويتفق الجميع عليه أنّ حربًا إقليمية تهدد بتفجير آبار ومنشآت النفط وموانئ تصديره في المنطقة هي كارثة للاقتصاد العالمي لا يمكن لأحد تحمل عواقبها.
تمتلك الإدارة الديمقراطية ومؤسسة الأمن القومي الأمريكي التي تكره ترامب سببًا حاليًا إضافيًا. هذا السبب سيجعلهم لا يسمحون – إلا مضطرين – لحرب ستقود حتمًا إلى ارتفاع في أسعار الوقود يضر الناخب الأمريكي في عام الانتخابات. تطور إذا حدث قد تضيع معه فرص كمالا هاريس في الفوز على ترامب وإبقائه بعيدًا عن البيت الأبيض.
“لعنة النفط” التعبير الذي يستخدمه كثير من العرب كدافع وراء النهم الغربي لنزح هذه الثروة، وبالتالي لكل هذه الهيمنة الغربية على قرارات حكامها ومقدرات شعوبها، قد يكون هذه المرة عاملًا كابحًا ولو مؤقتًا يمنع نشوب الحرب، بعد أن ظلّ تاريخيًا أحد أسباب نكبة المنطقة وخروجها من حرب لتدخل في أخرى.