فن

“إل كوندي” لبابلو لارين.. ملهاة على وقع أنين ضحايا بينوشيه!

ارتبطت الديكتاتورية منذ القِدم بفكرة اشتهاء الخلود.. فالديكتاتور مشغول طوال الوقت بالبقاء على كرسيه؛ وإطالة فترة استبداده بكل الوسائل، وهو مع الوقت يتصور أن غيابه المفاجئ سيكون وبالا على الوطن.. لذلك عليه أن يستمر ويستمر حتى ولو كان ذلك الاستمرار ضد قوانين الطبيعة ذاتها، فالديكتاتور لا يخضع سوى لقانون ذاته، ولا يسري عليه ما يسري على الآخرين، فإذا ناوشته الأقدار بما يشي بقرب الرحيل من مرض أو شيخوخة  أو نحوهما- فإن عقله لا يستوعب ذلك؛ لأن ذاته المتضخمة أوحت إليه جدارته بالخلود، وهو ما يجب أن تجري به الأمور.. حتى يقرر هو خلاف ذلك.

يحاول المخرج التشيلي بابلو لارين في فيلمه “إل كوندي” أو “الكونت” كما في الاسم التجاري للفيلم من إنتاج نتفيلكس- معالجة شخصية الديكتاتور الدموي أوجستو بينوشيه الذي حكم تشيلي سبع عشرة سنة ارتكب خلالها من الجرائم بحق الشعب التشيلي ما يجل عن الحصر، بعد انقلابه المدعوم أمريكيا على الرئيس اليساري سيلفادور اليندي في الحادي عشر من سبتمبر 1973، – من زاوية مختلفة، تصوّره مصاص دماء، عاش ما يزيد عن قرنين ونصف، وقد بدأ ظهوره على مسرح الأحداث العالمية أثناء الثورة الفرنسية في صفوف الملكيين؛ لينتقل بعد ذلك عبر التاريخ إلى أكثر من مكان ليظهر في صفوف القمعيين وأعداء الشعوب الحرة، وضد كل الحركات اليسارية، مُشْبِعا رغبته في إراقة الدماء، والممارسات الفاشية الإجرامية.. إلى أن يقع اختياره على هذا البلد الفقير النائي (تشيلي) ليصل فيه إلى سُدة الحكم.. لكنه بعد إجباره على التخلي عن الحكم في 1990، دون إدانة؛ بل ودون محاكمة، بعد أن صاغ له أمهر قضاة تشيلي دستورا خبيثا يعفيه من المحاسبة، بعد إبعاده عن رئاسة البلاد. والطريف أن والد المخرج بابلو لارين كان أحد هؤلاء القضاة- يدعي أوجستو الموت في 2006، حسب رؤية لارين، ليستمتع بما نهب من ثروات البلاد فيما بقي له من عمر، بعيدا عن الأعين التي تتتبعه.

لكن الثروة تحتاج إلى عقل واع ذي ذكاء خارق لجمع خيوط خطة التمويه بالغة الدهاء التي أرسلت وفقها الأموال في عدد من بنوك العالم -في أربعة أركان الأرض- بأسماء مستعارة، كما ابتيعت بها عقارات وممتلكات داخل تشيلي وخارجها.. وليس لبينوشيه الخرف وزوجته العجوز لوسيا ولا لأبنائهما الخمسة -وهم جميعا أقرب إلى الغباء- هذه المقدرة النادرة.. خاصة مع قرار “إل كوندي” بالموت بعد أن امتنع عن القتل ومص الدماء.

في ذات الوقت تحاول الكنيسة رد اعتبارها بالانتقام من الديكتاتور،  ويدبر الأمر بإرسال الراهبة كارمن ذات الإمكانات المحاسبية الفائقة للعيش مع أسرة بينوشيه في منزل عتيق يقع في جزيرة منعزلة؛ جُمعت إليه التحف الثمينة التي حازها بينوشيه عبر رحلته في الزمن. في رعاية الخادم الروسي فيدور وهو رجل مقارب لبينوشيه في العمر، وقد أسندت إليه خلال حكم بينوشيه كثيرا من المهام المتعلقة بالاختطاف والتعذيب والقتل لآلاف اليساريين.

ربما رأى لارين أن الديكتاتورية والخلود ضلعان في مثلث أما الضلع الثالث فهو السخرية.. فرغم مشاهد القتل والذبح وتهشيم الرءوس- تبقى الكوميديا السوداء حاضرة بقوة في العديد من مشاهد العمل.. ففي مشهد الحوار بين الراهبة والديكتاتور، لجمع المعلومات حول الثروة- يصل بينوشيه إلى أنه كان ضحية لطمع رجال الأعمال الذين أغروه بالمال لينهبوا البلاد عبر وسائل عديدة.

في مشهد آخر يتسلل بينوشيه الذي يتحرك طائرا فوق سماء سانتياجو، إلى القصر الرئاسي ويمر في الطرقة التي يضعون فيها تماثيل نصفية لرؤساء تشيلي.. يتفحص أوجستو التماثيل فلا يجد له تمثالا؛ فيأسى كل الأسى من هذا النكران الواضح.. ويقرر أن يقف لبعض الوقت مكان تمثاله الذي لم يوضع.. محاكيا وضع التمثال.

حوارات الخادم فيدور مع بينوشيه لم تخل من تلك الكوميديا، خاصة عندما يصارح الديكتاتور خادمه بمعرفته بالعلاقة التي تجمع بين فيدور والعجوز لوسيا زوجة بينوشيه، ورد فيدور أنه لم يمس لوسيا.. – لا يدري أحد ما الذي منعه من مواقعة العجوز.. ربما إخلاصه لبينوشيه- لكن الديكتاتور يقرر منح خادمه؛ لوسيا الخائنة مكافأة نهاية خدمة، بعد أن استولت على بينوشيه الرغبة في الراهبة كارمن، ما جعله يجوب سانتياجو كالمجنون يقتل كل من يقابله ويشرب دماء قلبه، حتى أن عجوزا مريضة ترقد في فراشها لم تسلم منه.

المخرج بابلو لارين
المخرج بابلو لارين

نكتشف قبيل انتهاء الفيلم أن الراوية التي يأتي صوتها هادئا بلغة إنجليزية راقية- ماهي إلا السيدة الحديدية مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا  في الفترة من (1979–1990). نكتشف أيضا أنها والدة الديكتاتور وأنها مصاصة دماء تعيش الخلود هي الأخرى.. وتتوالى أحداث الفيلم حتى ينتهي ببدأ حياة جديدة للأم والابن! بعد فشل كارمن في مهمتها ووقوعها في الغواية، ودفعها حياتها ثمنا لخطيئتها ومغامرتها الخطرة.

اختار لارين لفيلمه الأبيض والأسود؛ ربما إمعانا في القتامة التي أضافها على فيلمه؛ لكن  المصور السينمائي إدوارد لاكمان أثبت أن ذلك لا يقف حائلا أبدا أمام الإبداع.. ففي أغلب مشاهد الفيلم استخدم المصور أسلوبه الفريد في إبراز جماليات الصورة، خصوصا في مشاهد طيران مصاصي الدماء، وخارج المنزل العتيق في الجزيرة المنعزلة.

يحمل الفيلم رسالة قوية للحالمين بأن الشر ممتد ولا نهاية له.. كما أنه وضيع وبالغ التدني ويستحق السخرية عن جدارة.. كما أن لا أمل في حسابه عن جرائمه كما في حالة بينوشيه ومن قبله فرانكو في إسبانيا.. وغيرهما كثير.. بينما يظهر الخير موصوما بالفشل أغلب الوقت.. ونهاياته دائما نهايات حزينة وبالغة البؤس؛ مهما كان لديه من سمات التميز وعوامل النجاح.

فيلم “إل كوندي” فيلم جيد يستحق المشاهدة، مع الانتباه لرؤية بابلو لارين المعروف بوضع السم في العسل دائما.. فهو يقف على الحياد دوما في أعماله بين الأبيض والأسود!

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock