رؤى

ثورة يوليو 1795.. قصة أول دستور في مصر

اعتبر كثير من المؤرخين والباحثين التاريخيين، ثورة يوليو 1795، من أهم الثورات في التاريخ المصري الحديث؛ وذلك لما حققته من نتائج إيجابية، ألزمت بكوات المماليك المستحوذين على السلطة في مصر – في ظل ضعف الدولة العثمانية- بالتوقيع بالموافقة مرغمين على مطالب الشعب المصري التي حملها إليهم علماء الأزهر الشريف.

لقد اعتبرت هذه الوثيقة -فيما بعد- بمثابة أول دستور في مصر؛ ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحد من السلطات المطلقة التي كان يستحوذ عليها هؤلاء الحكام، وبلغ من شأن تلك الوثيقة أن شبهها البعض بالعهد الأعظم المعروف بـ “ماجنا كارتا” الذي أُجبر ملوك إنجلترا، على التوقيع عليه بعد ثورة 1215م ضد الملك “جون” الثاني.

تبدأ قصة تلك الثورة باستيلاء إبراهيم بك ومراد بك على حكم البلاد بعد وفاة علي بك الكبير، ومقتل محمد أبو الدهب الملقب بالخائن.. وقد تناوش المملوكان لبعض الوقت، قبل أن يتفقا على اقتسام السلطة وإيراد البلاد. ويورد جورجي زيدان في كتابه مصر العثمانية أن المملوكين لم يقدّما أي حساب عما كانا يجنيانه من الأموال، أو أنهما كانا يقدمان سجلات لا تعدو كونها “حبرا على ورق” فوَشَى بهما الوالي العثماني محمد باشا، إلى السلطان عبد الحميد الأول، مُتّهِما إياهما بالاستئثار بمالية البلاد؛ فأرسل السلطان جيشا حملته سفن الأسطول العثماني؛ فوصل إلى الإسكندرية  في 23 يونيو 1786، وبعد عدد من المناوشات الحربية انهزم المماليك شر هزيمة واضطروا إلى الفرار إلى الصعيد، ودخل حسن باشا قبطان قائد الجيش العثماني القاهرة في شوال من عام1200هـ الموافق أغسطس1786، واستمرت حملات ملاحقة فلول المماليك؛ حتى أُجبر مراد بك على التقهقر برجاله إلى منطقة الشلالات، بعد هزيمته على يد عابدين باشا ودرويش باشا قائدي الحملة البرية.

علي بك الكبير
علي بك الكبير

كان من الممكن أن تنتهي قصة إبراهيم بك ومراد بك عند هذا الحد، لكن الأقدار حملت لهما أسباب الظهور من جديد على مسرح الأحداث، عقب الوباء الذي اجتاح القاهرة في 1791، وكانت حصيلة الضحايا يوميا تفوق الألف، وقد ذكر الجبرتي في عجائب الآثار تلك الوقائع فقال”… ومات الأغا والوالي في أثناء ذلك، فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام، فولوا خلافهما فماتا أيضا، واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة”. ثم وقع نزاع بين حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار؛ انتهى إلى الاتفاق على تولية عثمان بك طبل مشيخة البلد؛ ولكنه لم يستطع إدارة البلاد في هذه الظروف؛ فقام باستدعاء إبراهيم بك ومراد بك من الصعيد؛ فأتيا برجالهما، فخذّل عنهما الأمراء حتى قبل الجميع بعودتهما خاصة بعد أن أبرزا عفو السلطان عنهما، وكان دخولهما القاهرة في 22 يوليو 1791.

وعلى مدى أربع سنوات من ذلك التاريخ تراكمت المظالم، وأكل حقوق الناس ونهب الثروات والتركات، وتعاظمت الجبايات، وفرض ضرائب مستحدثة، لم يسمع المصريون بها من قبل.. حتى كان شهر يوليو من العام 1795، إذ قدم إلى القاهرة جمع من أهالي بلبيس بالشرقية يشتكون إلى الشيخ الشرقاوي، الذي كانت له حصة من الأرض بتلك النواحي- ما أوقعه بهم محمد بك الألفي من ظلم شديد؛ فخاطب الشيخ الشرقاوي، مراد بك وإبراهيم بك فلم يجد منهما كبير اهتمام؛ فعاد إلى الجامع الازهر وجمع المشايخ، وأغلقوا الأبواب وأمروا الناس بإغلاق المحال والحوانيت، ثم توجهوا صبيحة اليوم التالي في مظاهرة حاشدة، إلى بيت الشيخ السادات قُرب مقر إقامة إبراهيم بك؛ فأرسل إليهم إبراهيم بك أحد رجاله، وهو أيوب بك الدفتردار؛ ليسألهم عن مرادهم فقالوا له: “نريد العدل، ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها، وأحدثتموها”. وكان رده عليهم تحايلا، ثم تعذّر بأنه سوف يبلغ إبراهيم بك، وسيعود إليهم بالجواب.. ولكنه لم يعد؛ فانفض الناس وعاد المشايخ إلى الأزهر، ثم تبعهم العامة فدخلوا المسجد حتى اكتظ بهم ثم باتوا فيه ليلتهم.. وكان إبراهيم بك قد أرسل إلى مراد بك؛ محذرا إياه من انتشار الأمر بين الناس، وتحوله إلى ثورة لا تبقي ولا تذر.. واتفق المملوكان على محاولة استرضاء المصريين، فأرسل مراد يطلب وفدا من رجال الأزهر للتفاوض باسم الشعب؛ فذهب الشيخ الشرقاوي، والشيخ السادات والشيخ البكري والشيخ محمد الامير، وصحبهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي خاطب رءوس العامة قائلا: “إذا لم نعد في ظرف ساعتين؛ فعليكم التحرك وفق ما ترون”.

مراد بك
مراد بك

بدأ الاجتماع بحضور الوالي العثماني وقاضي القضاة وإبراهيم بك وأمراء المماليك، الذين أجبرهم زعماء الشعب على الاعتراف بأن ما قاموا به إثم عظيم، يستوجب التوبة قبل رد المظالم؛ فنزلوا على رأيهم، ووافقوا على رد ما اغتصبوه من أموال الناس، وقد قُدّر بـ 750 كيسا، كما تعهّدوا بإرسال الغلال إلى بلاد الحرمين الشريفين، وكانوا قد امتنعوا عن إرسالها حتّى هلك الناس من الجوع، ووافقوا على إعادة إرسال العوائد المقررة لأهل الحجاز التي كانت بلادهم في كفالة مصر- بشكل دائم ودون انقطاع، وأن يعاد صرف غلات الشِّوِن وأموال الأرزاق المستولى عليها، وأن يبطلوا المكوس الجديدة، وألا يفرضوا أي ضرائب بدون وجه حق ودون استشارة العلماء وزعامات الشعب، وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس، وأن يسيروا في الناس سيرة حسنة.

وبعد الموافقة الشفهية كُتب ذلك في حجة بمعرفة قاضي القضاة، وقّع عليها الباشا، وختمها إبراهيم بك بخاتمه، وأرسلت إلى مراد بك فختمها.. وخرج الشعب في مظاهرات عارمة عمت أنحاء القاهرة يحتفلون بانتصار إرادتهم، ويهتفون الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل.. وعادت الحياة إلى طبيعتها، ففتحت الأسواق وسكنت الأحوال لفترة.. لكن طبائع البغي لا تُمحى بين عشية وضحاها؛ فما لبث أن عاد الأوغاد إلى سابق عهدهم من الظلم والتجبر، وخالفوا الناس ما عاهدوهم عليه، وعاد الاضطراب والقلق من جديد.. حتى صحا الناس من غفلتهم على أصوات مدافع الفرنسيس.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock