بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
يعتقد العرب المساكين أن جولة مفاوضات الدوحة كانت فاشلة لأنها لم تصل لاتفاق ينهي حرب الإبادة الجماعية في غزة، لكنها بالنسبة للأمريكيين كانت نجاحا جزئيا إذ حققت هدفا أساسيا لواشنطن من هذه الجولة وهي منع الرد الإيراني ورد حزب الله على اغتيال القائدين هنية وشكر.
في هذا السياق كان لافتا اتصال وزير الخارجية القطري مع نظيره الإيراني ليومين متتابعين كانت تجري فيهما مفاوضات الدوحة بين حماس وإسرائيل مصحوبة بغمامة تسريبات أمريكية متعمدة «زائفة» عن تقدم كبير نحو عقد الصفقة.
الإيحاء السياسي هنا هو أن تقويض هذا التقدم أمام العالم سيكون مسؤولية طهران وحلفائها في محور المقاومة وهي مسؤولية لا يريد أحد أن يتحملها. لا يمكن لمنصف أو مدقق أن يستبعد تأخر الرد الإيراني ورد المقاومة اللبنانية ورد الحوثيين على تدمير ميناء الحديدة إلا في سياق هذه المناورات السياسية والتفاوضية الدائرة في الشرق الأوسط التي تحرك واشنطن وتتحكم بكل خيوطها.
من هذا تستطيع بسهولة أن تعرف الهدف الأمريكي الأساسي ليس حل الأزمة ولكن وقف التصعيد الحاصل فيها والسيطرة على منسوبه بحيث لا يخترق سقف الحرب المحدودة إلي الحرب في عموم الشرق الأوسط.
باعتراف البيان الثلاثي الصادر في ختام المباحثات فإن المقترح الذي كان على الطاولة في الدوحة هو مقترح أمريكي خالص دعمه (الوسيطان العربيان)!! وباعتراف حركة حماس فإن المقترح الأمريكي تماهى تماما مع تعديلات شروط نتانياهو الخمسة التي أدخلها في مناسبتين مختلفتين وهدف من خلالها باعتراف وزراء وعسكريين إسرائيليين إلى منع الوصول لاتفاق.
أحيانا ما تكون بعض الأخطاء أو زلات اللسان تعبيرا أدق عن الحقيقة وهكذا بدا أول رد فعل من مكتب نتانياهو على اختتام جولة الدوحة دون اتفاق إذ قال: «تقدر إسرائيل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة والوسطاء لإخضاع حماس وإثنائها عن رفضها لصفقة إطلاق سراح الرهائن وتأمل إسرائيل أن تؤدي الضغوط التي يمارسونها إلى دفع حماس إلى قبول مقترح 27 مايو، حتى يصبح بالإمكان تنفيذ تفاصيل الاتفاق» تعدلت الصيغة لاحقا لإقناع حماس بدلا من إخضاع حماس.
الحقيقة أن إخضاع حماس للقبول بـ (قسمة ضيزى) هو جوهر ما سعى إليه موفدا بايدن الكبيران بيرنز وماكجورك في الدوحة.. والحقيقة أن مقاومة حماس لاتفاق من هذا النوع هو سبب الفشل الرئيسي في الدوحة وهو الذي استدعى الحاجة لجولة أخرى في القاهرة تعقد نهاية هذا الأسبوع.
الحقيقة أيضا أن الضغط ومن جميع الأطراف والوسطاء إنما يتم في اتجاه واحد وعلى طرف واحد هو حماس والمقاومة، بينما يقف نتانياهو منتظرا من الجميع أن يحققوا له أهدافه في الحرب التي عجز وأسلحة أمريكا والناتو عن تحقيقها في ميدان القتال.
إسرائيل نتانياهو التي تهاوت قوة ردعها بعد هجوم المقاومة في ٧ أكتوبر وباتت عاجزة عن مواجهة أي تهديد عسكري إلا بطلب معاونة واشنطن.. باتت عاجزة أيضا عن فرض شروطها في صفقة لوقف إطلاق النار إلا بمعاونة واشنطن.
المدهش أنه إذا كان رفض قادة حماس لرسائل أمريكا التي نقلها لهم القطريون والمصريون من خلال المقترح المنحاز لنتانياهو يعبر عن مستوى وازن بين استقلال القرار السياسي حتى عن أقرب داعميها الإعلاميين والماليين وأقرب جيرانها الجغرافيين المؤثرين على غزة.. فإنه يعبر عن اعتمادية إسرائيلية مطلقة على واشنطن وأصدقاء واشنطن العرب لفرض تسوية تخرجها منتصرة «بالواسطة» من حرب عجزت عن كسبها بذراعها.
لا تفسير مقنع لعجز أمريكا عن عقد صفقة لوقف إطلاق النار في غزة ومنع حازم لنتانياهو بعدم التسبب في حرب إقليمية في الشرق الأوسط لا تناسب عام انتخابات رئاسية أمريكية حاسمة ولا تناسب متغيرات حرب أخرى تخوضها بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا إلا عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى الإدارة الأمريكية لاستخدام ما هو متاح لها من موارد وأدوات ضغط استراتيجية هائلة على إسرائيل. أدوات اتضحت بجلاء بعد ٧ أكتوبر من ظواهر اعتماد إسرائيل عليها لإنقاذها عسكريا وحمايتها دبلوماسيا وقانونيا بتهديد وشل إرادة الأمم المتحدة ومنع محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية من فرض عقوبات على جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة.
بعبارة أوضح فإن استمرار الحرب في غزة وعجز بايدن عن إتمام صفقة – يزعم أنه قريب منها من شهر رمضان الماضي أي منذ نحو أربعة أشهر- هي أكبر دليل على أن واشنطن لم تستخدم ثقلها الحقيقي والفعلي على إسرائيل وفضلت باستمرار ممارسة هذا الثقل على المقاومة الفلسطينية عبر حلفائها العرب.
بالنسبة لشبح حرب لم تهدد المنطقة بهذه الخطورة منذ ٥٠ عاما أي منذ حرب أكتوبر ٧٣ وتهدد في هذه اللحظة بعض أهم مصالحها في المنطقة والعالم فإن الولايات المتحدة تفعل القليل سياسيا وأخلاقيا للحيلولة دون اتساع شررها.
هذا القليل الأمريكي- لأنه منحاز كلية للطرف الإسرائيلي- يعود في جزء منه إلى ضغوط السياسة الداخلية الأمريكية ونفوذ الصوت اليهودي وصوت المسيحية الصهيونية في عام الانتخابات ولكن الجزء الأكبر يعود إلي أن التصور الاستراتيجي الأمريكي تغير بعد السابع من أكتوبر وصار متفقا مع إسرائيل في أن الاستمرار في إدارة الصراع مع محور المقاومة لهيمنتها على المنطقة لم يعد مجديا وأن وقتا قادما لابد أن تنتقل فيه إلى حسم هذا الصراع حسما عسكريا تاما.
الخلاف بين واشنطن وتل أبيب هو خلاف على التوقيت.. واشنطن تريد أولا مد مظلة التطبيع واستكمال الحلف الإبراهيمي ومد نطاقه العربي واستكمال بناء قدرات حلف النقب للدفاع الجوي وتحويله لحلف عسكري كامل أمريكي/ إسرائيلي/عربي ضمن متطلبات استراتيجية أخرى قبل الشروع في المواجهة الكبرى مع إيران وحلفائها التي تراها قادمة لا محالة أما نتانياهو فيعتقد أن الفرصة مواتية لغسل عار جيشه وعاره الشخصي في ٧ أكتوبر في الهزيمة المذلة أمام المقاومة في غلاف غزة. وأن الوقت مناسب لتفجير المنطقة وهزيمة كل أعدائه العرب والإيرانيين مرة واحدة بمعاونة أمريكا والناتو.