رؤى

الصراع السوداني.. وإشكاليات تعثر مفاوضات جنيف

في لقاء مع صحافيين في مدينة بورتسودان، أكد قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، عدم المشاركة في المفاوضات التي جرت في سويسرا برعاية أمريكية، لوقف الحرب في السودان. وأضاف البرهان، السبت 24 أغسطس الجاري، “لن نذهب إلى جنيف، وليس لنا علاقة بها”. ولم يكتف البرهان بذلك، لكنه أضاف “سنحارب مائة عام”، في إشارة إلى الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، المستمرة منذ “16” شهرًا.

وقد انفضت محادثات جنيف الخاصة بوقف الحرب في السودان، دون أن تُسفر عن أي أمل في إمكانية وقف الاقتتال، الذي اندلع منذ فجر 15 أبريل من العام الماضي.

تأتي مفاوضات جنيف في إطار المحاولات المستمرة، من جانب أطراف دولية وإقليمية، لجمع فرقاء الصراع السوداني على طاولة المفاوضات، للتوصل إلى اتفاق لوقف الاقتتال. ورغم هذه المحاولات، إلا أن الصراع السوداني ما زال مستمرا، ليس فقط نتيجة إصرار الأطراف السودانية على الاستمرار في الصراع إلى ما لا نهاية؛ ولكن أيضا نتيجة التقاطعات الاستراتيجية التي تُمثل مصالح القوى، الدولية والإقليمية، المتدخلة في الصراع السوداني، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

فمن جانب، هناك الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى لتهدئة الأوضاع ومنع انتشار الفوضى في المنطقة، كجزء من استراتيجيتها الأوسع للحد من النفوذ الروسي والصيني في أفريقيا عموما، وفي القرن الأفريقي والسودان بوجه خاص.

وهناك أيضا الاتحاد الأوروبي الذي يحاول المشاركة بفاعلية لدعم المفاوضات، من خلال تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية، نتيجة الحرص الأوروبي على منع انزلاق السودان إلى حالة من الفوضى، التي قد تؤدي إلى تدفقات هجرة جديدة إلى أوروبا.

ثم هناك -من جانب ثالث- القوى الإقليمية، خاصة القوى العربية؛ مثل مصر التي تلعب دورا كبيرا في محاولة الحد من تمدد الصراع السوداني عبر الحدود، خشية تأثير ذلك على الأمن القومي المصري، وعلى قضية مياه النيل. كذلك، هناك السعودية والإمارات، التي لكل منهما مصالح استراتيجية في السودان.

هذا، فضلا عن تركيا وإيران، حيث تحاول كل منهما الاقتراب من الأطراف السودانية المتصارعة، خاصة الجيش السوداني، للتمركز على سواحل البحر الأحمر، التي تُمثل بُعدا استراتيجيا لكل منهما، في ظل كافة الظروف والملابسات التي تمر بها المنطقة العربية، ومنطقة جوارها الشرق أوسطي حاليا.

أضف إلى ذلك، أن تزايد مُشاركة الجهات الخارجية، لاسيما القوى الإقليمية، ذات المصالح الاستراتيجية، التي تُجاور السودان جغرافيًا، يُزيد الأمور تعقيدا وتشابكا؛ ما يجعل من البحث عن “وسيط” لإنهاء الصراع، أكثر أهمية من أي وقت مضى.

ففي الوقت الذي توجد فيه بالفعل، العديد من المبادرات، من جانب عددٍ من الجهات الفاعلة عربيا وأفريقيا، بل ودوليا أيضا، للحوار وإنهاء الصراع؛ إلا أنه -في الوقت نفسه- فإن مُشاركة أو الدخول على خط الصراع، من جانب لاعبين إقليميين آخرين، مثل إثيوبيا وإريتريا وكينيا، يُزيد من تشابكات الصراع.

والواقع، أن هذا الاحتمال يستند إلى افتراض، مفاده وجود تأثيرات فعلية للصراع الحالي، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته السابقة، في جنوبه وغربه. فقد أضاف الصراع السوداني بُعدا جديدًا للأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية، وأصبح مُكملًا لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي؛ وفي الوقت نفسه، فهو ليس بعيدا عن النزاع في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، الذي امتد بدوره من دولة مالي إلى دول الجوار، خصوصا النيجر وبوركينا فاسو.

في هذا الإطار، يبدو أن تساؤلا يطرح نفسه: رغم كل ذلك، لماذا يُصر قائد الجيش السوداني على عدم المشاركة في مفاوضات جنيف؟.. ثم ما النتائج المتوقعة لذلك؟.

ثمة ملامح ترسم بانوراما الإجابة على الشطر الأول من التساؤل؛ إنها تلك المتمثلة في العوامل التالية:

1- الحسابات السياسية والعسكرية؛ حيث يبدو أن البرهان يرى أن حضوره شخصيا إلى المفاوضات يؤدي إلى إضعاف موقفه، هذا بالإضافة إلى أن وجوده داخل السودان، مع رفض المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، يُعطيه قوة دافعة للمحافظة على السيطرة على الوضع العسكري والداخلي عموما.

2- عدم الثقة في المفاوضات؛ إذ من المحتمل أن البرهان، وفريق العمل معه، يُشك في جدوى المفاوضات ذاتها، أو في نوايا الوسطاء الدوليين، أو كليهما معا. ثم من المحتمل أيضا أن يكون البرهان مُتأثرا ببعض الضغوط من حلفائه، سواء في الداخل السوداني، أو حلفائه الإقليميين؛ الذين ربما يفضلون استمرار الجيش السوداني في الصراع، لتحقيق مصالحهم الخاصة. وكما يبدو فإن هذه القوى، خصوصا القوى الإقليمية، قد ترى أن استمرار الصراع يُعتبر جزءا مهما من الحفاظ على التوازن في المنطقة، التي تشمل شمال شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وجزء من سواحل البحر الأحمر.

3- الاعتبارات في الداخل السوداني؛ حيث قد يعتبر البرهان أن المُشاركة في مفاوضات جنيف، ستكون بمثابة اعتراف ضمني بالدعم السريع، كطرف متساوٍ مع الجيش السوداني في الصراع؛ ومثل هذا الاعتراف، حتى ولو كان ضمنيا، يبدو مرفوضًا بالنسبة له وللقوات المسلحة السودانية، التي ترى نفسها القوة الشرعية الوحيدة في البلاد.

أما بالنسبة إلى الشطر الثاني من التساؤل؛ فإن عدم حضور البرهان، أو في الحد الأدنى.. وفد يمثل الجيش السوداني، يمكن أن يؤدي إلى عدة نتائج، ربما تكون لها تأثيرات كبيرة على مستقبل السودان:

من جانب، فإن غياب الجيش السوداني عن المفاوضات سوف يؤدي إلى تعثر المفاوضات، وهو ما حدث بالفعل؛ فضلا عن احتمال دفعها إلى الفشل، خاصة أن الأطراف المشاركة، دوليا وإقليميا في المفاوضات، ترى ضرورة حضور الجيش لتحقيق تقدم.

وبالتالي، سوف يساهم هذا الموقف في رفض المفاوضات من جانب الجيش السوداني، في تأجيلها، أو الدخول في مرحلة من الجمود السياسي. وفي هذه الحال، يكون من المتوقع ليس استمرار الصراع فحسب، ولكن أن يتصاعد الصراع العسكري بين الجيش السوداني والدعم السريع؛ بما لذلك من تداعيات على السودان ومستقبله.

من جانب آخر، فإن رفض الجيش السوداني المشاركة في مفاوضات جنيف، وفي عدد من المحاولات قبلها؛ سوف يؤدي إلى تعميق الانقسامات داخل السودان، سواء داخل الجيش السوداني نفسه، أو بين مختلف القوى السياسية والمدنية، بما قد يساهم في تصاعد التوترات الداخلية وزيادة حالة عدم الاستقرار، التي يعاني السودان منها أصلا.

ومن الواضح، في هذه الحال، أن تزداد الضغوط الدولية على البرهان، وعلى الجيش السوداني بشكل عام؛ إذ، قد يتم فرض عقوبات إضافية، أو أن يتم فرض عزلة دولية على السودان.

من جانب أخير، فإن هذا الموقف من الجيش، الذي يقابله موقف آخر للدعم السريع، في الحضور إلى المفاوضات، سوف يساعد الدعم السريع على تلقي الدعم الخارجي، خاصة من بعض القوى الإقليمية، بما يُعزز من قدرتها على الاستمرار في الصراع.

وهكذا.. تؤشر هذه الجوانب الثلاثة، إلى أن رفض البرهان، والجيش السوداني، المشاركة في المفاوضات، سوف يتمخض عنه نتائج سلبية للغاية، بما يضع مستقبل السودان في خطر كبير؛ خاصة أن الجيش السوداني غير قادر حتى اللحظة على حسم الصراع لصالحه؛ في ظل الدعم المستمر الذي تتلقاه قوات الدعم السريع من الخارج.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock