رؤى

الصراع السوداني.. وإشكاليات المركز والأطراف

ما زال الصراع العنيف في السودان يتصاعد، منذ اندلاعه في العاصمة الخرطوم، في 15 أبريل الماضي؛ بل ويمتد إلى مناطق أخرى في الداخل السوداني. إذ إن هذا الصراع الذي يدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يُهدد بتفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتأليب النخبة المهيمنة سياسيا الواقعة على وادي النيل، التي ينتمي إليها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ضد من يعيشون على أطراف الدولة السودانية، الذين يمثلهم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.

ورغم التأكيد بأن القسمة السودانية ليست على هذا الشكل الحاد؛ إلا أن الصراع الحالي الذي يختلف عن كافة الصراعات السابقة، هو ما يؤشر إلى مثل ذلك التقسيم، حيث يسود الصراع العسكري في المقام الأول قلب السودان وليس أطرافه؛ وهو ما يُساهم في إطالة أمد الصراع، من منظور أن قوات الدعم قد أبرمت عدة اتفاقيات مع الجماعات المسلحة، في معقلها في دارفور، للتركيز على القتال في قلب البلاد.

أضف إلى ذلك، أن هذا يُتيح الفرصة لعودة بعض الجماعات المسلحة، للدخول على خط الصراع المسلح في السودان؛ إما على نحو فردي أو من خلال تحالفها مع أحد الأطراف المتحاربة. بل إن هذا الخطر ما زال قائما، إذا ما أخذنا في الاعتبار الأنماط المتكررة تاريخيا، حيث يبرز تقلب العلاقات بين الجماعات المسلحة، وتكرار إقامة التحالفات وإعادة تشكيلها.

وإذا كان للنزاعات المسلحة، بمختلف مواقعها الجغرافية، انعكاسات وارتدادات إقليمية، من خلال تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المباشرة وغير المباشرة؛ فإنها في حال السودان، تنطوي على عواقب وتداعيات أكثر منها تأثيرات. بل إن الأمثلة على وجود ما يترتب على النزاع المسلح “السوداني – السوداني” حاضرة من التجارب القريبة، حتى أنها تخطت مسارات مُحددة يؤثر من خلالها النزاع الحالي في دول الجوار.

وبحكم تعرض السودان الطويل للحرب الأهلية، في جنوبه وغربه، فإنه من السهولة افتراض وجود تأثيرات فعلية للصراع الحالي، والأزمة السودانية عموما، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته وصراعاته الداخلية السابقة. إذ إن الصراع السوداني قد أضاف بُعدًا جديدا للأزمة الداخلية، السياسية والاقتصادية والأمنية، وأصبح مُكملا لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي؛ وهو ليس ببعيد أيضا عن النزاعات في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، التي امتدت بدورها من مالي إلى دول الجوار، خصوصا النيجر وبوركينا فاسو، فضلا عن الجابون.

وبالتالي، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، على أكثر من صعيد؛ سواء على الصعيد الداخلي، أو الإقليمي وامتداداته على الساحة الدولية.

فمن اللافت، أن السودان بموقعه الجيوسياسي المتميز، يرتبط بجوار إقليمي مُعقّد؛ يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقا، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهو الجوار الذي يُعزز من مكانة السودان بوصفه مؤثرا مهما في إقليم الساحل الأفريقي. هذا فضلا عن جواره الشمالي حيث الدولة المركزية مصر، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأبعادها الإقليمية والدولية؛ ثم جواره الجنوبي المتمثل في جنوب السودان، الذي يربط السودان بتفاعلات منطقتي شرق أفريقيا والبحيرات العظمى.

أضف إلى ذلك أن السودان يتأثر بنمط عدم الاستقرار الإقليمي، وكافة ارتدادات عدم الاستقرار هذا على الداخل السوداني؛ فهناك قضايا اللجوء والتأثير في الاقتصاد والتجارة والأمن الغذائي والإنفاق العسكري.. وغيرها، ما ينعكس بشكل سلبي على تنمية البلاد المتعثرة أصلا.

ناهيك عن قضايا النزوح واللجوء إلى دول الجوار، الناتجة عن الصراع العسكري المستمر منذ ما يزيد على خمسة أشهر.

في هذا الإطار، يمكن توقع أن تُفرز الأزمة السودانية صياغة “عقد اجتماعي جديد”، تزداد فيه النزاعات والصراعات الإثنية؛ بل إن بعض الإثنيات في دول الجوار الجغرافي للسودان، سوف يستفيد من هذا الوضع، خاصة تلك الإثنيات ذات التداخلات العرقية في مناطق التماس الحدودية مع السودان؛ وهو ما يمكن أن يُشكل تهديدا كبيرا لاستقرار دول الجوار. فالقبائل ذات الأصول الأفريقية، في غرب السودان، وخصوصا في المناطق الملتهبة مثل دارفور، تجد فرصتها في الالتحام بقبائل المنطقة، مستفيدة في ذلك من الهشاشة الأمنية المتزايدة؛ وكذلك، ستفعل القبائل في شرق السودان، خاصة تلك المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، مما يجعل مناطق النزاعات والصراعات المتجددة، في منطقة الفشقة وغيرها، بيئة خصبة لتوالد مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان.

مثل هذا التأثير، يعتمد على مجموعة من العوامل، لعل من أهمها: مدى استمرارية الأزمة السودانية بوضعها الحالي، نتيجة استمرار الصراع المسلح؛ ومدى تأثير حجم الحدود الطويلة، الممتدة على طول غرب السودان وشرقه. أضف إلى ذلك، نتيجة الصراع المسلح الحالي، سواء بانتهائه أم باستمرار تداعياته، وتوسع رقعته التي ربما تمتد إلى إقليم دارفور غربا وإثيوبيا شرقا ودولة جنوب السودان جنوبًا؛ هذا، ناهيك عن إمكانية دخول الحركات المسلحة السودانية، على خط الصراع المسلح الحالي، وانحيازها إلى أحد طرفي الصراع.

ومن هنا، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، خاصة في شقها الأمني، على ثلاثة أبعاد رئيسة.. الأول، يتمثل في مدى قدرة الجيش السوداني على حسم الفوضى، التي يُمكن أن تنشأ على الحدود، خاصة في المناطق الملتهبة غربا وشرقا؛ والثاني، يتعلق بوضعية الحركة بين الحدود، وحالات اللجوء إلى خارج السودان، وبروز تعقيدات أخرى نتيجة هذه الحركة، مثل: التعديات على الأراضي، وانتشار الجرائم، والإرهاب، وتهريب البشر، وتجارة المخدرات والأسلحة. ثم البعد الثالث الذي يختص بإشكالية اعتماد المنظومة السياسية السودانية، على المحاور الإقليمية في حل مشكلاتها؛ إذ إن كل الحلول للأزمات السابقة، أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان، كانت بالارتكان إلى الحل السهل، أي إجراء استفتاء على الانفصال، ثم تنفيذه في حيز زمني ضيق.

وبناءً على عوامل الخطورة هذه، فإن كارثية الأزمة السودانية تكمن في تركيبتها وأسبابها، بل وفي الثغرات التي تتمدد من خلالها؛ خاصة إذا لاحظنا أن النقطة الجوهرية هنا، في هذه الأزمة، أن تداعياتها يمكن أن تمتد شرارتها وتفاعلاتها إلى دول الجوار الإقليمي؛ وفي الوقت نفسه، يمكن لهذه التفاعلات أن ترتد إلى السودان مرة أخرى؛ بما تؤدي إليه من استجابات سياسية، قد تكون لها آثار طويلة الأمد.

إلا أن الملاحظة الواجب تثبيتها.. أن هذه التداعيات ليس من الضروري  تمثلها في نشوب صراع مُسلح في دول الجوار السوداني؛ وإنما تتجلى في العبء الاقتصادي، الذي يتحمله الإقليم بأكمله نتيجة اللجوء عبر الحدود المشتركة، بين السودان ودول جواره الإقليمي، وهو ما يتبدى حاليا بوضوح. هذا فضلا عن الأنشطة “غير القانونية” الأخرى، التي بدأت بوادرها في الظهور مُؤخرا.

ملاحظة أخرى في ذات السياق، تتمحور حول المفارقة اللافتة في الأزمة السودانية؛ إذ رغم أن هذه الأزمة هي الأعقد والأكثر حدة، منذ سقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في أبريل 2019، إلا أنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية، من دول الجوار السوداني؛ بما يُشير إلى أن ذلك لا يعكس عزوفا من جانب تلك القوى، بقدر ما يؤكد مستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية.

وبكلمة، فإن مستوى الخطورة للأزمة السودانية، يحمل فُرصا حقيقية لإمكانية إدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي الشامل؛ بل وإمكانية تحوّل الأزمة إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock