الغَيْب لغة: ما غاب عن العيون، أو مايدل على “تستر الشيء عن الرؤية العينية”؛ فغياب الشمس مثلا يعني غروبها.. أما الشهادة لغة: فهي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”. وبالنظر في استخدام التنزيل الحكيم، يتبين أن الدلالة العامة لمصطلح “ٱلۡغَيۡبِ” هي الخفاء والستر؛ والدلالة العامة لمصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي الظهور.. فالغائب خفي مُستتر، والمشهود ظاهر بيِّن.
وسوف نبدأ هذا الحديث، بالبحث في دلالات مصطلح “ٱلۡغَيۡبِ” في آيات التنزيل الحكيم، على أن نُخصص أحاديث قادمة للبحث في معنى “ٱلشَّهَٰدَةِ” بوصفه مصطلحا قرءانيا.
ورد مصطلح “ٱلۡغَيۡبِ” في ستين موضعا، في آيات التنزيل الحكيم؛ ورد في جميعها في صيغة الاسم، في ما عدا موضع وحيد ورد فيه بصيغة الفعل، وهو قوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ” [الحجرات: 12]. إذ، نُلاحظ أن “وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ”، يؤشر إلى تجاوز “معرفة ما غاب عن الأعين”، إلى استخدامه في فعل “الاغتياب”.
وقد اقترن مصطلحي “ٱلۡغَيۡبِ” و”ٱلشَّهَٰدَةِ” في القرءان الكريم، في أكثر من موضع، بمصطلح “العلم الإلهي”، أي مصطلح “عَٰلِمُ”، وذلك في اصطلاح واحد هو اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”؛ من حيث إن الله تبارك وتعالى هو الخالق لهذين العالمين، عالم الغيب وعالم الشهادة، وهو المُدبر لأمورهما المُصرِّف لأحوالهما.
يتبدى ذلك بوضوح، عبر التعريف الإلهي لـ”الذات الإلهية”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ” [الحشر: 22].. وفي قوله سبحانه: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ” [الرعد: 9].. وفي قوله تعالى: “عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ” [المؤمنون: 9].. وفي عزَّ من قائل: “ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ” [السجدة: 6].. وفي قوله عزَّ وجل: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [التغابن: 18].
والمُلاحظ، أن اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”، الذي يتضمن “ثلاثة” مصطلحات: “عَٰلِمُ” و”ٱلۡغَيۡبِ” و”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يرد في أكثر من موضع، إضافة إلى تلك المواضع “الخمسة” السابقة..
فهو يرد في قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ” [الأنعام: 73].. وفي قوله سبحانه: “يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [التوبة: 94].. وأيضًا، في قوله تعالى: “وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [التوبة: 105].. وفي قوله: “قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ” [الزمر: 46].. وفي قوله: “قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ” [الجمعة: 8].
وهكذا، ورد اصطلاح “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”، في “عشرٍ” من المواضع في آيات الله البينات.
وبالعودة إلى مصطلح “ٱلۡغَيۡبِ” في التنزيل الحكيم، كأحد مصطلحات الاصطلاح القرءاني “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ”، نجد أن تعبيرات قرءانية متعددة تنطوي في إطاره؛ إذ لم يقتصر كتاب الله الكريم، في سياقاته المختلفة، على الحديث عن المشاهدات والمحسوسات، ولكنه اشتمل ـ فضلا عن ذلك ـ على “عَالَمْ الغيوب”، حيث جاءت كثير من آيات القرءان الكريم لتُخبرنا عن أشياء وعوالم لا يُدركها الإنسان، ولا يستطيع معرفتها إلا بالإخبار عنها، مثل العرش، والبعث والنشور، والجنة والنار، وعالم الملائكة، وعالم الجن.. وغير ذلك كثير.
ولو تتبعنا المواضع التي أتى فيها ذكر مصطلح “ٱلۡغَيۡبِ”، في آيات التنزيل الحكيم، نجد أنها كثيرة ومتنوعة حسب تنوع السياق الذي ترد فيه؛ إلا أن العامل المشترك بينها جميعا، هو الإخبار عن أشياء وعوالم لا يُدركها الإنسان، ولا يستطيع معرفتها من خلال حواسه وأدوات إدراكه ومعرفته القاصرة. وبالتالي، جاءت السياقات القرءانية لتُكمل جزءًا من المعرفة التي يستطيع الإنسان إدراكها والاستفادة منها.
والأهم، أنه ليس من المصادفة، والقرءان الكريم، بصياغته الإلهية، ليس به أي احتمال لأية مصادفة، أن يتقدم “ٱلۡغَيۡبِ” على ٱلصَّلَوٰةَ، في وصفه سبحانه لـ”ٱلۡمُتَّقِينَ”، في قوله تبارك وتعالى في سورة البقرة: “الٓمٓ ٭ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٭ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ” [البقرة: 1-3].
يعني هذا، في ما يعنيه، أن أهم وأول صفات “ٱلۡمُتَّقِينَ” الإيمان بالغيب: “ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ”، هذه الصفة التي تقدمت على إقامة الصلاة “وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ”، مثلما تقدمت هذه الأخيرة على الإنفاق “وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ”. أي إن الإيمان بالغيب يأتي ضمن أركان الإيمان، بل في مقدمته؛ وإن الإيمان بالغيب يأتي ضمن أُسس العقيدة الإسلامية.
ومن المنطقي التأكد من أن عدم معرفة “ٱلۡغَيۡبِ”، لا يتوقف عند حدود الإنسان؛ فقد أعطى القرءان الكريم مثالًا على عدم معرفة الملائكة للغيب، بخصوص الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى “فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ”، وذلك كما في قوله جل جلاله، في سورة البقرة: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].
بل، إن المولى سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه استأثر بـ”علم الغيب”، فلا يعلمه إلا هو.. حتى الذين اصطفاهم من عباده، من الأنبياء والمرسلين، رغم إطلاعهم على “خبر السماء”، إلا أنهم لم يطلعوا ولم يعلموا الغيب. ويتأكد ذلك عبر العديد من الآيات الكريمات، مثل قوله تبارك وتعالى: “وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ” [الأنعام: 59].
وللحديث بقية.