رؤى

الحدود الجنوبية الليبية.. إشكاليات أمنية وتحديات مُلِحّة!

بعد نحو ثلاثة عشر عامًا من انهيار النظام السابق في ليبيا، ما تزال مساحات شاسعة من الأراضي، على طول الحدود الليبية، البالغ طولها 4300 كيلو متر، منها 2774 كيلو متر حدود جنوبية، غير مُسيطر عليها، بشكل كامل؛ وبالتالي، غير خاضعة لسيادة الدولة.

ويتسم الجنوب الليبي بتضاريسه الصحراوية الشاسعة، وموقعه الحدودي الذي يتماس مع عدد من الدول الأفريقية والعربية، مثل تشاد والنيجر، إضافة إلى السودان والجزائر. وهذا الموقع، الجيواستراتيجي الهام، جعل منه ساحة مفتوحة للصراعات المحلية والإقليمية؛ فضلا عن النشاطات الإجرامية العابرة للحدود.

إشكاليات أمنية

وتتعدد الإشكاليات الأمنية في منطقة الجنوب الليبي، إلى درجة التشابك في ما بين تأثير دول الجوار الحدودي للجنوب الليبي على الأمن هناك- وتطور الوجود الروسي وتداعياته على الأمن في جنوب ليبيا..

فمن جانب، هناك تأثير دول الجوار الحدودي على أمن الجنوب: حيث يتمتع الجنوب الليبي بموقع جيواستراتيجي، يربطه بعدد من الدول المجاورة، مثل تشاد والنيجر والسودان والجزائر؛ ما يجعله منطقة حيوية وممرا للتجارة والهجرة غير الشرعية والأنشطة غير القانونية.

وقد تضافرت مجموعة من العوامل في التأثير على الاستقرار الأمني في المنطقة، أهمها: غياب الرقابة المركزية؛ إذ إن غياب الرقابة من أي من الحكومتين في شرق ليبيا أو غربها، على منطقة الجنوب، جعلها ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية والأنشطة غير القانونية؛ هذا بالإضافة إلى أن نقص التنسيق الأمني بين ليبيا ودول الجوار، يزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة. ورغم أن هناك محاولات لتفعيل اتفاقيات أمنية مشتركة، بين ليبيا ودول الجوار مثل تشاد والنيجر، إلا أن هذه الاتفاقيات تواجه عقبات بسبب الأوضاع الداخلية في هذه الدول.

أضف إلى هذه العوامل؛ الأزمات على جانبي الحدود.. فالحدود الطويلة للجنوب الليبي، مع كل من تشاد والنيجر والسودان، فضلا عن الجزائر، ساهم في تأثر هذه الدول بالوضع الأمني في ليبيا؛ وفي الوقت نفسه، تأثر الوضع الأمني في منطقة الجنوب بالتوترات الأمنية الداخلية في هذه الدول. ومن ثم تحوّل الجنوب الليبي إلى ملاذ للجماعات المسلحة والمتمردين، ممن ينتمون إلى هذه الدول، ويعارضون أنظمة الحكم فيها.

هذا الوضع، أدى إلى تزايد التوترات بين هذه الدول وليبيا، بما يتطلب تعاونا أمنيا إقليميا أكبر بين ليبيا وهذه الدول، لمواجهة التهديدات القائمة؛ خاصة في ظل تحول المنطقة إلى ممر رئيسي للاتجار بالبشر، من أفريقيا جنوب الصحراء إلى شمال أفريقيا وأوروبا.

من جانب آخر، هناك تأثير الوجود الروسي على الأمن في الجنوب الليبي؛ فهذا الوجود يُعدّ من التطورات الهامة، التي شهدتها منطقة الجنوب؛ خاصة في ظل الأحاديث التي تدور حول المحاولات الروسية في تعزيز هذا الوجود، وزيادته، لاستخدامه مدخلا إلى أفريقيا جنوب الصحراء عموما، ومنطقة الساحل الأفريقي بوجه خاص.

وتتبدى إشكاليات الوجود الروسي، في ما أصبح يُطلق عليه الفيلق الأفريقي؛ إذ إن هذا الوجود يتغيا التمدد إلى خارج الحدود الليبية، أي إلى تعزيز النفوذ الروسي في أفريقيا بشكل أوسع. فالجنوب الليبي يُمثل بوابة إلى دول الساحل والصحراء، مثل تشاد والنيجر، وهي مناطق غنية بالموارد وتعاني من هشاشة أمنية مماثلة لتلك التي تعاني منها ليبيا.

وبالتالي، يأتي الوجود الروسي ليزيد من تعقيد الوضع الأمني بالمنطقة؛ حيث يستدعي بالتأكيد القوى الغربية التي تسعى إلى مواجهة النفوذ الروسي في المنطقة؛ وبالتالي، يشكل هذا الوجود عاملا مُهِمّا في مستقبل الأمن في منطقة الجنوب، بل وفي المناطق المحيطة بها في الدول المجاورة لليبيا.

آفاق مستقبلية

يمكن تحديد الآفاق المستقبلية للاستقرار الأمني في منطقة الجنوب الليبي، في بعدين أساسيين؛ الأول يتعلق بالتحديات التي تواجه الوضع الأمني في المنطقة؛ والآخر يختص بالاحتمالات المستقبلية للوضع الأمني هناك.

من جهة تحديات الاستقرار الأمني في الجنوب؛ تتبدى هذه التحديات عبر عدد من العوامل المؤثرة على الوضع الأمني في المنطقة، وأهمها: إن الحدود الجنوبية الليبية تمتد على مسافات شاسعة، وتكاد تكون غير مأهولة في معظمها. هذا الفراغ الأمني، جعلها منطقة مثالية للنشاطات غير القانونية، مثل تهريب الأسلحة، والمخدرات، والإتجار بالبشر. ومنذ سنوات، تبدو شبكات الجريمة المنظمة هي المُسيطر الأكبر على الحدود الليبية الجنوبية، بسبب غياب السلطة المركزية، وضعف الإمكانيات لدى الجهات الحكومية.

والمُلاحظ، أن تلك الشبكات تتحكم في طرق التهريب، سواء إلى داخل ليبيا أو إلى خارجها؛ مع استخدامها القوة والنفوذ الاقتصادي للسيطرة على تلك المناطق.

أضف إلى ذلك، تحديات الجماعات الإرهابية؛ وهي تعتبر من أكبر التحديات أمام الاستقرار الأمني، في منطقة الجنوب الليبي؛ حيث تستغل الجماعات الإرهابية، مثل تنظيم داعش والقاعدة، الفوضى الأمنية في المنطقة لممارسة نشاطاتها، مستغلة غياب السلطة المركزية والفراغ الأمني على جانبي حدود منطقة الجنوب.

وتُشكل هذه الجماعات تهديدا كبيرا، وتحديّا متصاعدا، ليس فقط بالنسبة إلى ليبيا، ولكن أيضا لدول الجوار؛ حيث تنفذ هجمات عابرة للحدود، ودعم شبكات إرهابية في المناطق المجاورة.

أما من جهة، الاحتمالات المستقبلية للوضع الأمني في الجنوب؛ ففي ظل التعقيدات التي تواجه الجنوب الليبي، من الناحية الأمنية، من الممكن أن تتطور الأوضاع بشكل مختلف بناءً على عدة عوامل محلية وإقليمية؛ ومن ثم يبدو أن أهم الضرورات في تحسين الوضع الأمني، هو تعزيز التعاون الإقليمي؛ بمعنى أنه إذا تمكنت ليبيا ودول الجوار الحدودي لمنطقة الجنوب الليبي، مثل تشاد والنيجر والجزائر، من تعزيز التعاون الأمني وتفعيل الاتفاقيات المشتركة، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص الأنشطة غير القانونية، وتحقيق استقرار أكبر في المنطقة.

ولعل الدعم الدولي، في هذا الإطار، يلعب دورا محوريا، خاصة في ما يتعلق بتعزيز قدرات حرس الحدود الليبي والتعاون الاستخباراتي بين دول المنطقة.

وبشكل عام، يعتمد تطور الوضع الأمني للجنوب الليبي، بشكل كبير، على قدرة الجيش الوطني الليبي، ودول الجوار، على مواجهة التحديات الأمنية عبر التعاون الفعال والمستدام، إلى جانب ضرورة دعم القوى الكبرى، وخاصة القوى الأوروبية التي تُمثل المتضرر الأول من الأنشطة غير القانونية، والإتجار بالبشر في منطقة الجنوب.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock