مختارات

العمى الاستراتيجي

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عروبة 22

حسين عبد الغنيالمقصود بالعمى الاستراتيجي هنا؛ هو أن يلجأ طرف أو أطراف في صراع إلى استراتيجية استخدمها غيرهم تاريخيًا وثبت فشلها. والأكثر أنه هو نفسه طبقها في الصراعات نفسها ولكن في أوقات مختلفة وثبت فشلها. جوهر هذه الاستراتيجية هو ممارسة صور شديدة الوحشية من الحرب تجبر العدو على رفع الراية البيضاء وقبول الهزيمة.. أو فرض اتفاق تسوية سياسية يتضمن شروطًا مذلة تبقى مع هذا العدو تخيفه وترهبه لأجيال مقبلة.

تم تجريب هذه الاستراتيجية الرعناء من قبل الحلفاء بعد الحرب العظمى الأولى في اتفاقية صلح فرساي التي تطرف فيها الحلفاء وفرضوا شروطًا مذلة أهانت كبرياء ألمانيا “المهزومة”، وكانت سببًا في ظهور القومية الألمانية المتطرفة وحزبها النازي بقيادة هتلر الذي تسبب في كارثة الحرب العالمية الثانية.

ولا ينطبق هذا التعريف للعمى الاستراتيجي على سلوك أكثر مما ينطبق على السلوك الأمريكي/الإسرائيلي وسلوك النظام الرسمي العربي الراهن الخاص بالعدوان الراهن على لبنان.

هو سلوك يمكن بلورة ملامحه طبقًا لكل طرف:

إسرائيليًا: شن حرب اغتيالات لقادة “حزب الله”  وإطلاق العنان لسلاح الجو بغارات غير مسبوقة على البقاع وجنوب لبنان وصولًا إلى ضاحية بيروت والتهديد أو التحضير الفعلي لحرب برية تحتل أجزاء جديدة من لبنان بهدف دفع “حزب الله” للاستسلام والتخلي عن مساندة غزّة وقبول اتفاق مهين يهدم أساس وجوده نفسه. استسلام يضمن “نصرًا  مطلقًا” لنتنياهو ورأي عام إسرائيلي متطرف أسكرته نشوة حرب “البيجر”، ويتضمن انكسارًا وانسحابًا لـ”حزب الله” إلى ما وراء الليطاني وينشئ عازلًا أمنيًا يسمح بعودة نحو ثمانين ألف نازح إسرائيلي هربوا من مستوطنات الشمال.

أمريكيًا: وضع خطط الحرب مع قادة الاحتلال ومنح الضوء الأخضر السياسي وتوفير أحدث ما في ترسانة السلاح الأمريكي لإسرائيل، ومنح العدوان والقائمين عليه كل الوقت الذي يحتاجه دون أي عائق سياسي أو قانوني. ومنها منع مجلس الأمن الدولي من اتخاذ قرار يوقف العدوان  وترهيب ولجم مؤسسات إنفاذ القانون الدولي من معاقبة قادة حكومة وجيش إسرائيل. وردع إيران من الانضمام للمعركة والسيطرة الكاملة على السياسة الرسمية العربية وإشراكها في لعبة مفاوضات الباب الدوار واستهلاك الوقت حتى تُنهي إسرائيل حربها الإبادية.

عربيًا: يسير “نادي العقلاء العرب” كما يسير النيام وراء السردية الأمريكية/الإسرائيلية منذ عام ٢٠٠٦، وهي أنّ المصلحة المشتركة للأمريكيين والإسرائيليين والعرب المعتدلين هي في التخلص من “حزب الله” الشيعي وتفكيك نفوذ إيران الإقليمي. وأنّ التخلص من الحزب ومن “حماس” هو قضاء على آخر عقبة باقية  أمام مسار السلام والتطبيع.

أعضاء هذا النادي المنضوون تحت راية حلف النقب خضعوا للشرط الأمريكي بعدم التجرؤ حتى على التفكير في استخدام ورقة واحدة من أوراق الضغط المتاحة لديهم، والتي كانت كفيلة بتراجع نتنياهو عن التصرف كقائد أعلى للشرق الأوسط، دون حتى التلبس بالمخاطرة أو الاتهام بالجسارة. قيل لهم لا تقلقوا على الاستقرار السياسي لأن الحرب ستكون “قصيرة وخاطفة، ساحقة وماحقة” ولن نضعكم في مواجهة شعوبكم المعادية لإسرائيل زمنًا طويلًا.

“العقلاء” يكررون هنا الموقف نفسه الذي اتخذوه في حرب غزّة والذي أقنعهم الغرب فيه أيضًا، بأنّ “حماس” سيُقضى عليها خلال فترة لا تزيد عن ٤ شهور، لدرجة أنّ البعض تنبأ في فبراير/شباط الماضي بسقوط وشيك لـ”حماس” متحدثًا عن الكيلومتر الأخير، وها هي الحرب توشك الدخول إلى عامها الثاني و”حماس” ما زالت موجودة كمقاومة وإدارة حاكمة رغم الاعتراف بالضربات الشديدة التي تعرضت لها.

استراتيجية حصار غزّة وتسميم عرفات واغتيال قيادات “حماس” و”الجهاد” و”الشعبية” و”الديمقراطية”، ومن قبلهم قادة “فتح” التاريخيين وإذلال السلطة الفلسطينية وتحويل اتفاق أوسلو رافعة للقضاء على الدولة الفلسطينية والتوسع المخيف في سياسات الاستيطان والتدنيس المستمر للمسجد الأقصى.. هذا الإذلال اليومي هو من خلق هذا الجيل الأشد بأسًا من المقاومة الذي شن “طوفان الأقصى” والذي يخوض الآن حرب مدن مبهرة في مخيمات الضفة.

هل تختلف الخبرة اللبنانية مع هذه الاستراتيجية الإسرائيلية؟.. الجواب معروف وتؤيده مواجهات المقاومة مع إسرائيل. إخراج منظمة التحرير الفلسطينية بهذه الطريقة المذلة عام 1982 هي التي سمحت للمقاومة في الجنوب والحلول محلها. وفي كل المواجهات التي تلتها كان اغتيال القيادات يقود لجيل أكثر تشددًا في العداء للأمريكيين والإسرائيليين ومستوى أعلى من التسليح حتى باتت إسرائيل محاطة بحلقة نار لبنانية من الشمال وفلسطينية من الجنوب، وها هي جبهات جديدة تنضم لمحاربة إسرائيل.

الأخطر من إنجاب القهر وحروب الإبادة الإسرائيلية/الأمريكية لأجيال تطلب الثأر أكثر من آبائها، هو أن ما يُعرض من اتفاقيات لوقف إطلاق النار على “حزب الله” هي في جوهرها ما يعرضونه على “حماس”. اتفاقيات جعلت نصر الله والسنوار كليهما ليس لديه ما يخسره، إذ يخيّر بين الموت العاجل بالحرب ولكن بشرف أو الموت البطيء مع العار والمذلة.

لا تسمح هذه الاستراتيجية الرعناء بالاستفادة من تعاليم الحرب في ترك ثغرة لعدوك يستطيع فيها التراجع دون المس بشرفه. ظن هؤلاء أنّ الضغط العسكري على “حزب الله” سينتج عنه عودة سكان الجليل “خائب”، مثل القول إنّ الضغط على “حماس” سيحرر المختطفين الإسرائيلين في غزة -مات معظمهم-، فضلًا عن أنه يحشر “حزب الله” في الزاوية كما فعل مع “حماس” ويجعله موقنًا أنّ استسلامه معناه انتحار سياسي ونهاية مبرر وجوده أمام شعبه ومنظمته وجمهوره العربي.

اتفاق وقف لإطلاق النار مترابط في الجنوب يوقف حرب الإبادة في غزّة هو الوحيد الذي قد يوقف الحرب في الشمال، أقل من ذلك ليس مجرد استمرار متوقع لحروب الاستنزاف بل قد يشتعل الشرق الأوسط كله بحرب لا تبقي ولا تذر.. حرب ستكون فعلًا لا قولًا أمّ المعارك والحروب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock