رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. ودلالة مصطلح الرسول “الشهيد”

الشاهد هو “من يقوم بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يقوم بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث. ومن هنا، نُدرك، أن شهادة الشهيد أقوى من شهادة الشاهد؛ من حيث إن الأخير يعتمد على “الخبرة المعرفية”، في حين يستند الأول إلى “المُشاهدة العينية”.

ومن هنا، وإذا كان الشاهد والشهيد، كل منهما اسما مفردا؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يتضح أن هناك اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وهو الاختلاف الذي يتضح من خلال آيات التنزيل الحكيم.

وقد وصلنا في الحديث السابق، إلى أن شهادة الرسل عليهم السلام جميعا، بواحدية ووحدانية الله تبارك وتعالى؛ هي “شهادة معرفية”، وليست “شهادة حضورية”؛ إذ لا أحد منهم رأى الله جلَّ جلاله.

فماذا عن شهادة الرسل للأمم، أو على الأمم، من الناس.. هل يمكن لرسول أن يكون “شهيدا”، و”شاهدا” في الوقت نفسه، على الناس؟

هذا هو التساؤل الذي أنهينا به حديثنا السابق، حول مفهوم الشاهد؛ وكانت الإجابة هي: نعم بالتأكيد؛ إنه الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

فمن حيث كونه “شهيدا”، يقول سبحانه وتعالى: “فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا” [النساء: 41]؛ إذ إن الشهيد هنا، لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها. وهي ذات الدلالة التي ترد في قوله سبحانه: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ” [النحل: 84]؛ وأيضا في قوله تعالى: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ…” [النحل: 89].

ولنا أن نُلاحظ هنا، كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”، أي شهيدا على كل شهيد من كل أمة. ليس فقط ولكنه سيكون كذلك شهيدا على أمته؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.

ولنا أن نُلاحظ هنا أيضا، كيف أن الخطاب القرءاني يختص بـ”ٱلرَّسُولُ”، أي يختص بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في مقام “الرسالة”.

ولعل هذا ما يتأكد في قوله عزَّ وجل: “وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ” [الحج: 78]. ولنا أن نتأمل الأحرف الثلاثة المتتالية “وَفِي هَٰذَا لِـ”؛ إذ، إن “وَفِي هَٰذَا” تؤشر إلى السياق القرءاني في الآية الكريمة قبلها “وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ”؛ أما حرف اللام “لِـ”، الذي يُطلق عليه هنا “لام التعليل”، فيأتي سببا لذلك الذي تؤشر إليه “وَفِي هَٰذَا”.. وبالتالي، يأتي التعليل “لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ”؛ والرسول عليه الصلاة والسلام، كـ”شَهِيد”، تكون شهادته في هذه الحال شهادة “معرفية عينية”.

ملاحظة أخرى، بخصوص الآيتين الكريمتين، وما ورد فيهما من تقديم وتأخير.. ففي قوله سبحانه: “لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ” [البقرة: 143]، يأتي الرسول تاليا للأمة الوسط؛ في حين في قوله تعالى: “لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ” [الحج: 78]، يأتي الرسول سابقا للأمة المحمدية، الأمة الوسط.

ومن خلال تأمل السياق القرءاني في الآيتين الكريمتين، نجد أنه في آية [البقرة: 143] ورد تأخير “شَهِيدٗاۗ”؛ ليس فقط لأن سياق الآية يرد فيه الحديث عن الرسول: “لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ” [البقرة: 143].. ولكن أيضا لأن الآية التالية يرد فيها استكمال الحديث عن الرسول وعن “القِبْلة”: “قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ” [البقرة: 144]. لذلك، ورد تأخير “شَهِيدٗاۗ” حتى يكون الخطاب القرءاني مُتصلًا.

أما في آية [الحج: 78]، فيرد تقديم “شَهِيدٗاۗ”، من منظور أن الخطاب القرءاني عن “المؤمنين”، ولنفس السبب، أي حتى يكون الخطاب القرءاني مُتصلًا: “لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ” [الحج: 78].

في هذا الإطار، يكون الرسول “شهيدًا” أي يتسم بـ”المعرفة الحضورية”.

فكيف إذن يكون الرسول شاهدا؟

ورد مصطلح “شَٰهِدٗا” في التنزيل الحكيم في مرات “ثلاث”؛ وكلها تخص الرسول عليه الصلاة والسلام..

يقول سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا” [الأحزاب: 45-46]؛ وهنا، لنا أن نُلاحظ أن الخطاب القرءاني يأتي لـ”ٱلنَّبِيُّ”، أي إلى محمد عليه الصلاة والسلام في مقام “النبوة”.

وكما يبدو، من السياق القرءاني في السورة [سورة الأحزاب]، فهذا النداء “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ” هو النداء “الثالث” في السورة.. حيث يأتي النداء الأول بما يتعلق بذاته، في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا” [الأحزاب: 1]؛ كما يأتي النداء الثاني بما يختص بزوجاته، في قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا” [الأحزاب: 28].. ثم، يأتي النداء الثالث: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ…”.

هنا، في هذه الآيات الكريمة [الأحزاب: 45-46]، يأتي النداء ليتمحور حول صفات النبي عليه الصلاة والسلام، وسماته التي تُسم “الدعوة المحمدية”؛ إذ، نجد “شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا”، وهي “خمس” صفات لهذا النبي الكريم، يتقدمها ويرد في مقدمتها “شَٰهِدٗا”؛ بما يعني أنه “شاهد شهادة خبرة معرفية” بصحة ما هو صحيح من الشرائع، وبقاء ما هو صالح للبقاء منها؛ وفي الوقت نفسه، “شاهد شهادة خبرة معرفية” ببطلان ما أُلصق بها وما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها، كما أخبر عنها التنزيل الحكيم.

وفي هذا السياق القرءاني، لا يكون النبي “شَٰهِدٗا…” وحسب؛ ولكن، إضافة إلى ذلك، يحمل البشرى للمؤمنين، كما يتضح في قوله تبارك وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٭ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلٗا كَبِيرٗا” [الأحزاب: 45-47].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker