رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. ودلالة مصطلح الرسول “الشاهد”

وصلنا في الحديث السابق، إلى أن شهادة الرسل عليهم السلام جميعا، بواحدية ووحدانية الله تبارك وتعالى، هي “شهادة معرفية”، وليست “شهادة حضورية”؛ إذ لا أحد منهم رأى الله جلَّ جلاله. وقد طرحنا هذا التساؤل: ماذا عن شهادة الرسل للأمم، أو على الأمم، من الناس.. هل يمكن لرسول أن يكون “شهيدا”، و”شاهدا” في الوقت نفسه، على الناس؟

وكانت الإجابة هي: نعم بالتأكيد؛ إنه الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

فمن حيث كونه “شهيدا”، يقول سبحانه وتعالى: “فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا” [النساء: 41] إذ إن الشهيد هنا، لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها. وهي ذات الدلالة التي ترد في قوله سبحانه: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ” [النحل: 84] وأيضا، في قوله تعالى: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ…” [النحل: 89].

فكيف إذا يكون شاهدا؟

ورد مصطلح “شَٰهِدٗا” في التنزيل الحكيم في مرات “ثلاث”؛ وكلها تخص الرسول عليه الصلاة والسلام..

يقول سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا” [الأحزاب: 45-46] وهنا لنا أن نُلاحظ أن الخطاب القرءاني يأتي للنَّبِيُّ، أي إلى محمد عليه الصلاة والسلام في مقام “النبوة”؛ وفي الوقت نفسه، يختص بالرسالة، حيث يرد السياق القرءاني ليتضمن التعبير الدال على ذلك “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ”.

وبالتالي، يأتي النداء في مُفتتح الآية ليتمحور حول صفات “النبي المُرسل”، عليه الصلاة والسلام، وسماته التي تُسم “الدعوة المحمدية”؛ إذ نجد “شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا”، وهي “خمس” صفات لهذا النبي الكريم، يتقدمها ويرد في أولها “شَٰهِدٗا”؛ بما يعني أنه “شاهد شهادة خبرة معرفية” بصحة ما هو صحيح من الشرائع، وبقاء ما هو صالح للبقاء منها؛ وفي الوقت نفسه “شاهد شهادة خبرة معرفية” ببطلان ما أُلصق بها وما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها، كما أخبر عنها التنزيل الحكيم.

وفي هذا السياق القرءاني، لا يكون النبي “شَٰهِدٗا…” وحسب؛ ولكن إضافة إلى ذلك، يحمل البشرى للمؤمنين، كما يتضح في قوله تبارك وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٭ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلٗا كَبِيرٗا” [الأحزاب: 45-47].

ضمن الصفات “الخمس” التي ردت في الآيتين الكريمتين السابقتين [الأحزاب: 45-46]، ترد “ثلاث” منها في قوله عزَّ وجل: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا” [الفتح: 8]. وكما هو واضح من السياق القرءاني للآية، فإن هذه الصفات تختص بالنبي بوصفه رسولا أي في مقام “الرسالة”، حيث يأتي هذا التأكيد في قوله سبحانه: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ”.

ولعل هذا الدور الموكل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، في ذلك المقام، يرتبط بنزاهته وعدالته؛ بل فضلا عن ذلك يرتبط -في الوقت نفسه- بدوره كونه شخصية مركزية ومحورية للأمة؛ هذه الأمة (المحمدية)، التي وصفها التنزيل الحكيم بأنها “أُمَّةٗ وَسَطٗا”، وذلك في قوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.

وليست شهادة الرسول هذه، مجرد شهادة عادية؛ لكنها شهادة مستندة إلى التعليل الوارد في الآية التالية مباشرة، التعليل الذي يأتي في مُفتتح الآية، في قوله تبارك وتعالى: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٭ لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا” [الفتح: 8-9]؛ فـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، هنا، “شهادة الرسول”، تأتي حول الإيمان “بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ”، من حيث إن حرف “اللام” في “لِّتُؤۡمِنُواْ” تأتي للتعليل.

ولنا أن نُلاحظ، أن هذا التدرج في “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والتدرج في اتساع الدوائر حول مركز معين، وهو هنا الرسول عليه الصلاة والسلام كـ”شاهد مركزي”، ثم دوائر الشهود من حوله: الأمة والأمم والناس؛ يُمثل تسلسلا تدريجيا لـ”مراتب الشاهد”، و”مراتب الشهود” في آن؛ وليس هذا نوع من إثارة النعرة العنصرية لصالح العرب، التي يحاولها الشيوخ من الأقدمين، ومن والاهم من المحدثين؛ ولكنها رؤية في كيفية تناول التنزيل الحكيم تدرج المسئولية بخصوص “الشهادة الحق” في اليوم الحق.. اليوم الآخر.

في هذا الإطار، تأتي شهادة الرسول “مرتكزا أساسا” في تدرج الشهادة، ودوائرها المتتالية، في التنزيل الحكيم؛ وهو ما يتأكد عبر الموضع “الثالث” لورود مصطلح “شاهِدٗا”، الذي يخص الرسول عليه الصلاة والسلام؛ نعني قوله عزَّ من قائل: “إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا” [المزمل: 15].

إذ، هاهنا يتأكد لدينا أن شهادة الرسول هي الشهادة المقصودة، أي شهادة مقام الرسالة؛ وبالتالي، فهي شهادة تختص بالرسالة.. فكما أن الله سبحانه قد أرسل من قبل “إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا”، فقد أرسل إلى الأمة المحمدية “رَسُولٗا”؛ لكنه ليس مجرد رسول، بل هو “رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ”.. أي شاهدًا على هذه الأمة، من حيث ـ ولا ندري كيف نؤكد على هذه النقطة ـ الرسالة.

وهكذا…

يُمكن التوصل إلى نتيجة مفادها أن دور الشاهد في التنزيل الحكيم، يُعتبر تكليفا منوط به أفراد وشخصيات، تأتي كلها في دوائر متتالية مركزها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأيًا تكن دائرة الشاهد، فإن الدور المنوط به ليس دورا اختياريا طوعيا؛ بل -في غالب الأحيان- هو تكليف للشاهد بحكم صفته أو خصوصية موقعه.

بيد أن ما نود التأكيد عليه، أن تعدد الشهود لا يختص بالإنسان أو الناس فقط؛ ولكنه يتعدى ذلك إلى أعضاء الإنسان وجوارحه: التي تُستنطق للشهادة على الإنسان في اليوم الآخر.. كيف؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker