رؤى

مفهوم التأويل.. ودلالة الفارق بين الحلم والرؤيا

في البحث حول ملامح مفهوم التأويل، قياسا إلى “البنائية القرآنية”، واعتمادا على أسس اللسان العربي، وصلنا إلى أن لفظة “تأويل”، جاءت اشتقاقا من مادة “أول”؛ وهي تشير في اللسان العربي إلى فعل من أفعال الأضداد، وهي أفعال كل منها يحمل معنيين: المعنى والمعنى المضاد تماما. ومن ثم، فإذا كانت لفظة تأويل تعني “العودة إلى أصل الشيء”، وتعني “ما ينتهي إليه الشيء”، فإن الذي يجمع بين المعنيين هو دلالة الصيغة الصرفية “تفعيل” على الحركة؛ وهي دلالة لم يلتفت إليها كثير من اللغويين في تحليلهم المعجمي.

لذلك، فإن الدلالة التي يتضمنها ويشير إليها “مصطلح التأويل” تنبني – بالأساس – على الحركة؛ حركة بالشيء أو بالظاهرة، إما في اتجاه “الأصل” لاكتشاف دلالته ومغزاه، وإما في اتجاه “الغاية” لمعرفة التوجه والمصير. وإذا كان الرجوع إلى الأصل هو حركة عكسية، فإن الوصول إلى الغاية هو حركة مستقبلية تطورية نامية.

وبالتالي، ومن حيث إن هذه الحركة ليست حركة مادية، بقدر ما هي “حركة ذهنية”؛ فإن دلالة مصطلح التأويل تتمحور حول: “حركة ذهنية في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها”؛ من حيث إن الإدراك هو “إعطاء الأشياء والظواهر معان محددة”، أما الوعي فهو “كيفية التعامل مع معاني الأشياء والظواهر”.. فماذا عن دلالة التأويل، في كتاب الله العزيز؟

دائرة الدلالة

لعل مقاربة دائرة الدلالة التي يتخذها مصطلح “تأويل”، وتؤكدها مواضع الورود في التنزيل الحكيم، تبدأ بملاحظة أن لفظة تأويل وردت في كتاب الله العزيز في سبعة عشر موضعًا، وذلك في سبع سور؛ مرة واحدة في ثلاث: النساء، يونس، الإسراء؛ ومرتين في ثلاث: آل عمران، الأعراف، الكهف؛ ثم ثماني مرات في سورة يوسف.

ولعل ورود لفظة تأويل في كتاب الله، بمثل هذا العدد من المرات، يشير إلى مدى دوران اللفظة في التنزيل الحكيم خصوصًا، وفي اللغة عمومًا؛ إذ لنا أن نلاحظ أن التأويل كان مفهومًا عند العرب قبل الإسلام. كما أن ورود اللفظة ثماني مرات في سورة واحدة، سورة يوسف، يعود إلى أن بناء السورة قائم على أساس “رؤية” يوسف عليه السلام في بدايتها؛ وهي الرؤية التي “يتحقق تأويلها” في نهايتها. هذا بالإضافة إلى كل من “حلم الملك” و”حلمي السجينين” التي يؤولها يوسف.

من هنا، وفي إطار محاولتنا مقاربة مصطلح التأويل لأجل التعرف على الدلالة التي يشير إليها، وبالتالي تحديد ملامحه كـ”مفهوم” في القرآن الكريم؛ لنا أن نقارب عددًا من النقاط تختص كل منها بمستوى دلالي محدد، ينبني على “اصطلاح” معين، تكون لفظة التأويل إحدى مفرداته.

ولعل أهم هذه النقاط، ارتباط التأويل بكل من الرؤى والأحلام والأحاديث في سورة يوسف، ثم تأويل الأفعال كما ورد في سورة الكهف؛ وهو ما ينتج عنه مستويات دلالية مختلفة، تبعًا للاصطلاح الذي ترتبط فيه لفظة تأويل بأي منها.

وهنا، لا بد من التأكيد – بادئ ذي بدء – على “خطأ” ما يراه البعض: استبدالًا لكلمة “أحلام” بكلمة “أحاديث” أو بكلمة “رؤيا”، من آية إلى آية في هذه السورة، سورة يوسف. الدليل على ذلك، هو اختلاف السياقات التي وردت فيها الاصطلاحات الثلاثة: الأحلام والرؤيا والأحاديث، في السورة.

وهنا، سوف نتناول “تأويل الأحلام”، و”تأويل الرؤيا”؛ على أن نتناول كلًا من “تأويل الأحاديث”، و من بعدها “تأويل الأفعال” في مقال قادم بإذن الله تعالى.

تأويل الأحلام

فاصطلاح “تأويل الأحلام” لم يأت إلا مرة واحدة، في هذه السورة، سورة يوسف – بل، وفي الكتاب كله – وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ٭ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ٭ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي ٭ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا…” [يوسف: 43 – 46].

وكما يبدو، فإن اصطلاح “تَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ”، جاء على لسان حاشية الملك وجاء بدلالة “الهاء”، في: “أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ”، على لسان: “الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا”. ومن ثم، لنا أن نلاحظ “الاختلاف” بين تأويل الرؤيا والحلم، وذلك قياسًا إلى “المتحدث”؛ إذ عندما يكون “أنا” فهي “رؤيا”، وعندما يكون “آخر” فهو “حلم”، ويكون “تأويل الأحلام” هو تأويل الآخر لرؤية الأنا.. ولعل هذا ما يتأكد، إذا لاحظنا قوله سبحانه: “وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 36].

تأويل الرؤيا

أما اصطلاح “تأويل الرؤيا”، فقد ورد مرة واحدة في السورة، سورة يوسف – وفي الكتاب كله، أيضًا- وذلك على لسان يوسف عليه السلام، في قوله تعالى: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا…” [يوسف: 100]. وها هنا، لا يبدو فقط اختلاف دلالة هذا الاصطلاح، عن ذاك الذي سبقه، قياسًا إلى المتحدث، ولكن أيضا يبدو ما تشير إليه الآية من معنيين مهمين: معنى التأويل ومعنى الحق.

ففي المعنى الأول: “هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ”، أي بعد أن رأى يوسف في “المنام” ما رآه، وبعد أن تتالت الأحداث حتى وصل أهله إلى مصر وهو وزير، عندها “تحول” المنام من مجرد رؤيا في وعي يوسف، إلى حقيقة موضوعية مادية خارج وعيه؛ هذا التحول “الجعل” هو “تحقق” التأويل. وفي المعنى الثاني: “قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا”، أي غيَّر صيرورتها “جعلها” من حال “الرؤيا”، إلى حال “الحقيقة” الملموسة، لذلك وردت كلمة “حقًا”.

فماذا، إذن عن تأويل “الأحاديث” وتأويل “الأفعال”؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock