رؤى

الاستشراف.. أدوات وتقنيات تصور المستقبل

الاستشراف هو القدرة على تصور المستقبل، وتوقع التطورات والاتجاهات التي قد تحدث، حيث يركز الاستشراف على فهم التغيرات المستقبلية والتحولات التي يمكن أن تؤثر على مختلف القطاعات، في الاقتصاد، السياسة، التكنولوجيا، والمجتمع؛ ويتمحور حول استباق الأحداث والتخطيط لها بشكل منهجي، بناءً على مجموعة من السيناريوهات والاحتمالات.

في عالمنا اليوم، حيث تتسارع التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، أصبح الاستشراف أداة ضرورية لمواجهة التحديات المستقبلية؛ إذ يُتيح الاستشراف للحكومات والمؤسسات استباق الأحداث وإعداد خطط استراتيجية، للتعامل مع المتغيرات المتوقعة. بل يلعب الاستشراف المستقبلي دورا حيويا في توجيه القرارات والتخطيط في مجموعة متنوعة من المجالات.

فما هو تعريف الاستشراف؟ وكيف تطور تاريخيا حتى أصبح علما؟ وما هي أنواع الاستشراف المختلفة؟

بداية، يُشير مفهوم الاستشراف إلى التحليل والدراسة المتعمقة للاتجاهات والمؤشرات الحاصلة في لحظة زمنية معينة، لفهم ملامح المستقبل وتوقع التغيرات المحتملة فيه. وكما قال روس داوسون، رئيس مجلس إدارة شبكة الاستكشاف المستقبلي: “حتى لو كنا نعجز عن إدراك المستقبل، فإننا يُمكننا التفكير به بطريقة ممنهجة، والتَّمَعُن في الاتجاهات، للحصول على تصورات مفيدة”.

وقد عُرّفَ الاستشراف المستقبلي، على مستوى الاتحاد الأوروبي، بأنه: “عملية منهجية تشاركية تتأسس على جمع المعلومات المستقبلية، ووضع رؤى متوسطة وطويلة الأجل، تهدف إلى اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر”.

فهل يكفي هذا لاعتماده تعريفا للاستشراف؟

الاستشراف، لغة، من استشرف يستشرف، استشرافا، و”استشراف المستقبل: التطلع إليه أو الحدس به”. أما الاستشراف اصطلاحا، فهو يدل على “اجتهاد علمي مُنظم، يهدف إلى صياغة مجموعة من التوقعات المشروطة، أو السيناريوهات التي تشمل المعالم الرئيسية لمجتمع ما”.

في هذا الإطار، يمكن القول بأن الاستشراف هو عملية تحليلية تهدف إلى استكشاف المستقبل بشكل استباقي، من خلال دراسة الاتجاهات الحالية والسيناريوهات المحتملة. يجري ذلك عبر جمع البيانات وتحليلها لتحديد ما يمكن أن يحدث في المستقبل، وما هي الخيارات المتاحة للتعامل مع تلك التغيرات؛ وهو -في ذلك- يأتي على عكس التنبؤ، الذي يعتمد غالبا على النماذج الرياضية والمعلومات الإحصائية.. حيث يتناول الاستشراف تحليلا أوسع، يتضمن العوامل الاقتصادية، الاجتماعية، التكنولوجية والسياسية، ما يتيح إمكانية تصور مستقبلات متعددة.

بعبارة أخرى، يُعرّف الاستشراف إجرائيا، بأنه تعبير عن: “التفكير الاستراتيجي بما سيكون عليه الحال في الغد، واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للوصول إلى تحقيق أعلى درجات النجاح في الأهداف المُحددة”.

وبكلمة، الاستشراف هو “أداة للتفكير المنهجي حول المستقبل بهدف تحسين قرارات اليوم”.

شهد مفهوم الاستشراف تطورا كبيرا على مر العصور. في العصور القديمة، اعتمد الناس على التنبؤات الفردية، مثل قراءة النجوم وما يُسمى “قراءة الطالع” لمحاولة فهم ما قد يحمله المستقبل من أحداث. ومع تطور المعرفة البشرية، وزيادة التعقيد في المجتمعات، برزت الحاجة إلى أدوات أكثر منهجية في التنبؤ بالاحتمالات المستقبلية، أو التي يمكن أن تحدث في المستقبل.

وقد تطوّر مفهوم الاستشراف عبر التاريخ بدءا من الأساليب البدائية لتوقع المستقبل، من التنجيم، وصولا إلى تطورات وإمكانات العلم الحديث. وكان للتقدم التكنولوجي – منذ القرن التاسع عشر- دور في تقليص مساحة غير المعلوم من العالم؛ ومن ثم أصبح مُحركا كبيرا لتحولات المجتمعات الإنسانية. بل، كان لتمكن البشر من جمع وتحليل البيانات دور هائل في تحسين القدرة على التنبؤ، في مجالات عديدة؛ بداية من الطقس إلى “التأمين على الحياة والممتلكات”.

والمُثير، هو تمكُن حوالي “300” كتاب ورواية من روايات الخيال العلمي، صدرت في الفترة (1870-1914) من التنبؤ باندلاع الحرب العالمية الأولى بشكل أكثر اقترابا من الدقة.

وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، تصاعد الاهتمام بالاستشراف، خاصة في المجال الاقتصادي. وبالرغم من إخفاق الكثير من الاقتصاديين في التنبؤ بـ”الكساد الكبير” في عام 1929، إلا أن أُسس بناء التوقعات والنمذجة وبناء الأنماط الإحصائية والحسابية، ظل مُستخدما بشكل واسع.

وفي القرن العشرين، مع التقدم العلمي والتكنولوجي، تطور مفهوم الاستشراف ليصبح عِلمًا أكثر نظامية. ومع مساهمات علماء كُثُر، في مجالات الاقتصاد والسياسة، أصبح الاستشراف جزءا أساسيا في التخطيط الاستراتيجي. لاحقا، خلال فترة الحرب الباردة، اعتمدت الحكومات على تقنيات الاستشراف لاستباق التهديدات العسكرية والسياسية. ومنذ ذلك الحين، توسع استخدام الاستشراف ليشمل مجموعة متنوعة من المجالات مثل التكنولوجيا، الأعمال، السياسة، التعليم، والبيئة.

وقد تطورت أدوات الاستشراف، من مجرد تنبؤات بسيطة إلى استخدام تقنيات متقدمة مثل النمذجة الرياضية وتحليل البيانات الضخمة؛ حتى أصبح الاستشراف جزءا مُهما من صنع القرار في الحكومات، الشركات، والمؤسسات الدولية، حيث يُستخدم لتوجيه السياسات والاستراتيجيات طويلة الأمد.

وعلى المستوى المؤسسي، أسست المفوضية الأوروبية، في عام 1989، “وحدة المستقبل” ولكنها حُلت في عام 2000؛ إلا أن الاتحاد عاد وأسس شبكة “ESPAS”، وهي اختصار لـ”الاستراتيجية الأوروبية وتحليل النظم”، لتُصبح منذ عام 2012، أكبر شركة تضم معاهد الاستشراف والدراسات المستقبلية في أوروبا.

على الرغم من خلط المفاهيم بين الاستشراف (Foresight)، والتنبؤ (Prediction)، فإن هناك فرقا شاسعا بينهما؛ حيث يدور الاستشراف حول استكشاف للإمكانات المستقبلية (المسارات المتعددة)، وهو قائم على مناهج واضحة وقائمة على جمع الأدلة وتحليلها، ويسعى إلى تحديد الاحتمالات التي قد تتخذها ظاهرة ما، مع تحديد مستويات اليقين؛ إضافة إلى أنه يهدف إلى دعم اتخاذ القرار. أما التنبؤ فهو مقولات محددة حول المستقبل، ولا يخلق بدائل متعددة أمام صانع السياسات.

ويعتمد الاستشراف على العديد من الأدوات والتقنيات التي تساعد على تصور المستقبل وتحليل الاتجاهات المختلفة. من بين هذه الأدوات، تأتي السيناريوهات والنماذج التنبُّئِية بوصفها أدوات رئيسية في تطوير رؤية شاملة للمستقبل.

أولا: السيناريوهات (Scenarios) وهي أداة تحليلية تُستخدم لرسم عدة صور ممكنة للمستقبل، بناءً على مجموعة من الافتراضات حول الاتجاهات والتغيرات المحتملة؛ وهي ليست توقعات دقيقة، بقدر ما هي قصص أو سرديات تستكشف المستقبلات المختلفة. وتعتمد السيناريوهات على تحليل عدد من المتغيرات المحتملة، وتتيح للقادة وصناع القرار تصور كيف يمكن أن تؤثر التغيرات في مختلف المجالات، مثل السياسة، التكنولوجيا، الاقتصاد، والبيئة، على المستقبل.

ثانيًا، النماذج التنبؤية (Predictive Models)؛ وهي أدوات تعتمد على البيانات والإحصاءات، لتوقع النتائج المستقبلية، استنادا إلى البيانات الحالية. وتستخدم هذه النماذج في تحليل كميات كبيرة من البيانات، بهدف التعرف على الاتجاهات التي تساعد على التنبؤ بما يُمكن أن يحدث في المستقبل.

وتعتمد هذه النماذج على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل التحليل الإحصائي، لفهم الأنماط من البيانات السابقة وتطبيقها على سيناريوهات جديدة. ويمكن رؤية هذه التطبيقات في مختلف المجالات بشكل واضح، حيث تساهم في تحسين الأداء واتخاذ قرارات مدروسة.

ويبقى التساؤل: كيف يمكن دمج السيناريوهات والنماذج التنبئية، للوصول إلى عملية الاستشراف الناجح؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه في الحديث القادم.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker