إذا كان الشاهد هو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يأتي بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث؛ فإننا في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، قد تناولناه عبر آيات التنزيل الحكيم، التي تؤشر إلى الحياة الدنيا، وملامح كل من الشاهد والشهيد، ومن ثم الشاهدين والشهداء.
يعني هذا أن مصطلح “الشاهدين” يدل على “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ وهي الدلالة التي تتأكد، في قوله سبحانه: “وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ” [الأنبياء: 78]. إذ الشهادة في هذه الحال شهادة معرفية، أي شهادة خبير بحكم كل من “دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ”.
أما الشهداء، فهم في صيغة الجمع من شهيد؛ لذا فإن مصطلح “شهداء” يدل على أن شهادة هذا المجموع من الأشخاص هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي إن لديهم “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.. أو لنقل: إن شهادتهم “شهادة حضورية”. هذه الدلالة تتأكد في قوله تعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ ٭ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98-99].
وعبر الآيتين الكريمتين، وكما أشرنا في حديثنا السابق “دلالة الحضور في مصطلح شهاداء”، لنا أن نُلاحظ التناغم القرءاني بين “وَٱللَّهُ شَهِيدٌ” وبين “وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ”، وهو تناغم دلالي على “شهادة حضورية”، من المولى سبحانه (دون تجسيد)، ومن “أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ” الذين يصدون “عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ”، ويبغونها “عِوَجٗا”. ولأن شهادة هؤلاء “حضورية”، ولأن الـ”شَهِيدٌ” من أسماء الله الحُسنى، فقد جاء ختام الآيتين الكريمتين “وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ”.
هذا عن “شهداء الدنيا”.. فماذا، إذن، عن “شهداء الآخرة”؟
أو تحديدا، ماذا عن “شهداء الآخرة” في التنزيل الحكيم، وليس في المعهود الذهني الإنساني.. إذ إن هذا الأخير له حديث خاص به.
يقول سبحانه وتعالى: “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ” [الزمر: 69]. وكما يبدو، فهذه الآية الكريمة تنقلنا إلى عالم آخر، إلى عالم “الآخرة”؛ حيث تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات، كما يتأكد عبر قوله عزَّ وجل: “يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ” [إبراهيم: 48]. ففي الحياة الدنيا، يعيش البشر على الأرض نهارا، بنور الشمس، أي عندما تُشرق الشمس؛ أما في الآخرة، فالأرض هي التي تُشرق “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ”.. ولكن ليس بذاتها -كما يقول البعض- وإنما تُشرق “بِنُورِ رَبِّهَا”.
والمُلاحظ، هنا، أن الإنسان وإن كان يعيش على الأرض في حياته الدنيا بـ”الأسباب”؛ إلا أن هذا الإنسان، نفسه، يكون في الآخرة موجودا بـ “المُسبب”، سبحانه وتعالى “ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ” [يوسف: 39؛ ص: 65؛ الزمر: 4]. هذا يعني أنه كما تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات، فإن البشر أنفسهم سوف يبُدَّلون على هيئة أخرى، تُناسب الآخرة. كما يعني أيضا أن “ضياء الشمس” و”نور القمر”، يكون كل منهما في الدنيا، كما يرد في قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ” [يونس: 5]؛ إلا أنه في الآخرة، فقد “َأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا”.
هذا عن “إشراق الأرض”.. فماذا إذن عن “الكتاب” في الآية؟
يأتي السياق القرءاني، الذي يتضمن الآية الكريمة، ليؤشر إلى الآخرة.. حيث يقول عزَّ من قائل: “وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٭ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ ٭ وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ…” [الزمر: 67-69].
بهذه الأحداث، التي يصفها السياق القرءاني، يكون التساؤل عن الكتاب الذي وُضِع.. ما هو، وعلى ماذا يحتوي؟.. خاصة أن التعبير القرءاني “وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ…”، يرد في “مرتين” في آيات التنزيل الحكيم.
في سورة الزمر، يقول المولى تبارك وتعالى: “وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ…” [الزمر: 69]. وفي سورة الكهف، يرد السياق القرءاني الدال على “الآخرة”، كما يرد مضمون هذا الكتاب؛ حيث يقول عزَّ وجل: “وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٭ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٭ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا” [الكهف: 47-49].
وكما يبدو من الآية [الكهف: 49]، فإن هذا الكتاب هو كتاب إحصاء لـ”الأعمال”.. كما في قوله سبحانه: “مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ”؛ ويكون هذا هو مضمون الكتاب “وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ”؛ ولذلك “فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ”.. ولذلك أيضا يأتي التأكيد الإلهي “وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا”.
وكما أن هذا الكتاب يأتي شاملا لـ”الأعمال”؛ فإن لكل إنسان كتابه الخاص به.. كما في قوله جلَّ جلاله: “وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ٭ ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا” [الإسراء: 13-14].
في هذا السياق، وبعد وضع الكتاب، وبعد أن يأخذ كلٌ كتابه؛ وبعد أن “َجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ” [الزمر: 69].. هنا، يكون التساؤل: من “ٱلنَّبِيِّـۧنَ”، ومن “ٱلشُّهَدَآءِ”، وعلى أي شيء تكون شهادة هؤلاء “ٱلشُّهَدَآءِ”؟
وللحديث بقية.