حددت اللجنة العليا لتغيير واستبدال العملة في السودان، العاشر من ديسمبر الجاري موعدا لاستئناف عملية استبدال العملة بعددٍ من الولايات السودانية، وتستمر لمدة أسبوعين. وكان البنك المركزي السوداني قد أعلن في 9 نوفمبر الماضي، طرح عملة نقدية جديدة من فئة الألف والخمسمائة جنيه، وطالب بإيداع الفئات المتداولة حاليا في حسابات الأشخاص بالبنوك دون السماح بالاستبدال، على أن يتوقف التعامل بالطبعات الحالية لاحقا.
ورغم أن هذه الخطوة تُثير بعض التداعيات السلبية على الاقتصاد؛ فإنها -في الوقت نفسه- تدفع إلى التخوّف من أن يؤدي القرار إلى الانفصال الإداري والاقتصادي في البلاد.
تعد قضية تغيير العملة، من الخطوات الاقتصادية الحساسة، التي تلجأ إليها الدول في ظروف معينة، سواء لأسباب اقتصادية بحتة أو لاعتبارات سياسية وأمنية. في السودان، تزايدت الدعوات لتغيير العملة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد التحولات السياسية التي شهدتها البلاد؛ إثر الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير، وما تبع ذلك من أزمات اقتصادية متفاقمة.
وفي ما يبدو، فإن ثمة دوافع متعددة لعملية تغيير العملة.. لعل أهمها ما يلي:
1 – السيطرة على النقد المتداول خارج النظام المصرفي: إذ يأتي على رأس الدوافع الأساسية للحكومة السودانية، التابعة للجيش السوداني؛ لتغيير العملة – السيطرة على النقد المتداول خارج النظام المصرفي الرسمي.
وتشير التقارير إلى أن نسبة كبيرة من النقد المتداول في السودان موجودة خارج البنوك، ما يقلل من قدرة السلطات على التحكم في السيولة المالية داخل البلاد؛ بل ويقدِّر البعض أن ما يصل إلى 90% من النقد السوداني متداول خارج القنوات المصرفية، ويستخدم في أنشطة اقتصادية غير رسمية أو حتى مشبوهة.
ومن ثم، فإن تغيير العملة قد يفرض على الأفراد والجماعات إعادة أموالهم إلى النظام المصرفي، من خلال استبدال العملات القديمة بالجديدة، ما يمنح السلطات فرصة لاستعادة السيطرة على التدفقات النقدية.
2 – مكافحة التهريب والاقتصاد غير الرسمي؛ فالاقتصاد غير الرسمي في السودان يُشكّل نسبة كبيرة من الاقتصاد الكلي، حيث يعتمد العديد من المواطنين على الأنشطة التجارية غير الرسمية، مثل التهريب وبيع السلع والخدمات بعيدا عن الرقابة الضريبية.
ومن ثم، فإن تغيير العملة يمكن أن يساعد في تضييق الخناق على هذه الأنشطة، خصوصا أن المهربين والمشاركين في الاقتصاد غير الرسمي، عادة ما يحتفظون بكميات كبيرة من النقد خارج البنوك. بإجبار الجميع على استبدال الأموال، تستطيع السلطات رصد الأصول النقدية غير المشروعة.
3 – استعادة السيطرة السياسية للحكومة؛ ففي سياق التحولات السياسية المستمرة في السودان، يسعى الجيش السوداني لتأكيد سيطرته على مفاصل الدولة والاقتصاد؛ بما يعني أن تغيير العملة قد يكون خطوة استراتيجية لتعزيز هذه السيطرة، خاصة في مواجهة القوى السياسية المعارضة، التي قد تكون لديها احتياطيات نقدية كبيرة خارج النظام المصرفي.
ومن ثم، يمكن أن تكون هذه الخطوة جزءا من استراتيجية أوسع لتقليص نفوذ بعض الفاعلين الاقتصاديين، المناهضين للجيش، أو تقويض قدرتهم على تمويل أنشطتهم السياسية.
تتعدد التأثيرات الاقتصادية التي سوف تنتج عن عملية تغيير العملة في السودان.. كما يلي:
1– تأثيرات قصيرة المدى: من المتوقع أن يتسبب تغيير العملة في بعض الاضطرابات الاقتصادية.. فعملية استبدال العملة غالبا ما تكون محفوفة بالتحديات اللوجستية والعملية، حيث يتطلب الأمر طباعة عملات جديدة وتوزيعها على مستوى البلاد. كما أن إجبار المواطنين على استبدال أموالهم في فترة زمنية قصيرة، قد يؤدي إلى اندفاع كبير على البنوك، ما يضغط على النظام المالي ويزيد من مخاطر الاضطرابات المصرفية.
علاوة على ذلك، قد تحدث حالة من عدم اليقين في السوق، نتيجة لمخاوف الأفراد والشركات بشأن القيمة المستقبلية للعملة الجديدة. وقد يتسبب هذا في مزيد من انخفاض النشاط الاقتصادي.
2 – التأثير على سعر الصرف؛ حيث سعر صرف الجنيه السوداني كان يتعرض لضغوط هائلة بسبب التضخم المرتفع وارتفاع العجز في الميزانية، وكذلك ضعف احتياطيات النقد الأجنبي. تغيير العملة قد يوفر فرصة للحكومة لإعادة ضبط سعر الصرف الرسمي، سواء من خلال خفض قيمة الجنيه أو من خلال تثبيته عند مستوى معين لفترة مؤقتة. رغم أن هذه الخطوة قد تكون ضرورية لتحقيق الاستقرار النقدي، إلا أن احتمالات نجاحها تعتمد على قدرة الحكومة على إدارة السوق بشكل فعال.
ومع ذلك، هناك خطر أن يؤدي تغيير العملة إلى تفاقم الضغوط على سعر الصرف، خصوصا إذا لم تتمكن السلطات السودانية من توفير الاحتياطيات الكافية لدعم العملة الجديدة، أو إذا فقد الجمهور الثقة في النظام المالي. في مثل هذه الحالة، قد تشهد البلاد هروبا جماعيا إلى العملات الأجنبية، ما سيؤدي إلى تدهور سريع في قيمة العملة المحلية.
3 – التأثير على المستوى الاجتماعي؛ لعل لتأثيرات الاقتصادية لتغيير العملة قد تمتد إلى الجانب الاجتماعي، حيث من المحتمل أن يؤدي اضطراب النظام المالي إلى تأثيرات مباشرة على حياة المواطنين. إذا لم يتم تتحكم السلطات في التضخم والسيولة النقدية بشكل فعّال، فقد تتفاقم معاناة الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، مثل الفقراء والعمالة غير المنتظمة. وفي المقابل، إذا نجحت الحكومة في تنفيذ هذه السياسة بشكل مُحكم، قد يشهد المجتمع تحسنا في مستويات المعيشة واستقرار الأسعار.
تتنوع الاحتمالات المستقبلية بشأن عملية تغيير العملة في السودان.. إلى احتمالات ثلاثة:
1 – إمكانية النجاح في الحد من التضخم؛ إذ إن تغيير العملة قد يمثل فرصة للحكومة السودانية لتطبيق إصلاحات مالية ونقدية شاملة، تهدف إلى كبح التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. على المدى الطويل، يمكن أن يؤدي النجاح في ضبط السيولة وتعزيز الثقة في العملة الجديدة، إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية ودعم النمو.
2 – التحديات السياسية والاجتماعية؛ قد تواجه الحكومة المدعومة الجيش السوداني تحديات كبيرة في تطبيق تغيير العملة، إذا لم يتوفر الدعم الشعبي لهذه الخطوة. السكان قد يرون في تغيير العملة محاولة لفرض السيطرة السياسية أو الاقتصادية من قبل الجيش، خاصة في ظل غياب توافق سياسي واسع حول هذه الخطوة. لذا فإن إدارة تغيير العملة بشكل دقيق وشفاف؛ قد يخفف من المخاوف ويحقق النجاح.
3– تأثير التحولات الدولية؛ فالتغيرات السياسية والاقتصادية الدولية قد تلعب دورا في تحديد مدى نجاح تغيير العملة. السودان، الذي يعتمد على المساعدات الخارجية والتعاون مع المؤسسات المالية الدولية، قد يحتاج إلى دعم خارجي لتوفير احتياطيات النقد الأجنبي وضمان استقرار العملة الجديدة.
وهكذا.. فإن تغيير العملة في السودان يمثل خطوة جريئة يمكن أن تحقق فوائد كبيرة، إذا نفذت بشكل صحيح، لكنها تحمل في طياتها مخاطر كبيرة أيضا.
دوافع الجيش السوداني والحكومة، لهذه الخطوة تتراوح بين الرغبة في السيطرة على النقد المتداول وضبط التضخم، إلى تعزيز النفوذ السياسي. والنجاح في هذه الخطوة يعتمد على التنفيذ الفعّال والسياسات المصاحبة لها، وكذلك على التوازن بين المصالح السياسية والاقتصادية.