أسقط الصورة من صندوقه.. لا يريد أن يذكر وجعه على الملأ، كما لا يريد أن يَمْثُلَ أمامه شاخصا بالألم في ليله المنتظر.. ليبقى غائبا في الماضي دون استدعاء؛ حتى ولو كان نقشا باهتا، أسفل صورةٍ لا تُفْصِح عن كثير من التفاصيل.. أما التاريخ المُبهم فهو يعرفه جيدا، باحثا متفحصا وعاشقا مؤثما بالحنين الممض.. لن يحمل تلك الصورة ضمن أشيائه، التي ستغادر معه إلى حيث المرفأ الجديد.. لا يود أن يسأل نفسه سؤالا مباشرا جارحا، حول ظل الصورة الذي يحاول الإفلات منه.. أليس هذا الطريق البادي فيها هو ما عرفته قدماه؛ سعيا ولعبا واستمتاعا؟ ألم تعانق ذرات ترابه تلك، عرقه ودمه ودموعه يافعا؟ أليست أشجاره مصاعد ذلك العمر الأول، نحو سماء المغارب الندية، ونسمات الفجر الباسم -بلا إشفاق أو وجل- للفتوة الجامحة؟ ألم تكن تلك البيوت موطن دفء وشِبَعٍ؛ لأيام ما زالت تروي ظمأ السنين العجاف؟
لكنه سيسقط روحه من تفاصيلها، على نحو اعتيادي تماما، كما فعل في غير موقف، أنكر فيه قُربى الدم وآصرة الشقاء؛ لا لشيء إلا لينجو ببعض قناعة، أبقى عليها في سفره الطويل نحو التبصر.
تصدمه حقيقة أنه لم يكن يوما جزءا أساسيا من تلك التفاصيل.. نعم عاش هناك.. كبر وتعلم.. عرف وتألم.. ندم وتأثم.. صفح مرات وامتلأ صدره غلا فما أقدم! لم تنطبع ملامحه في أحداقهم.. على نحو ما، كان غير مرئي.. شيئا يمكن تجاوزه بسهولة دون كبير عناء.. تلك الميزة الباهتة المنجية في الكثير من المواقف.. أن تكون -على طبيعتك- دون قدرة على إثارة ذلك الشعور بالمودة أو الاستياء؛ فتمنح لأكثر الناس رقة أو عدوانا؛ ذلك الإحساس البغيض بالحياد وانعدام الرغبة في أي فعل؛ ليكون مُجبرا على غض الطرف عنك.. تئد أقوى دافع للفضول في لمحة عين.
دفعتْ أحدهم ذات يوم حماقة مفرطة لاستيقافه.. لكن طيش المتعاجب، تحطّم على صخر جملة آمرة.. أن لا داعٍ لذلك.
وقف عمره عند “لا داع” تلك، صارت روحه؛ بل كل ذرة فيه وقفا على تلك “اللا داعٍ”.. ليصارح نفسه ذات مرة بقوله: لماذا أتيت إلى هذا العالم؟ لم يكن هناك داعيا قويا لتفعل.. لكنك فعلت؛ فأوغرت صدر الوجود عليك.. دون أن يصدر عنه – صراحة- ما يشي بذلك.
كان عليه أن يحسم الأمر.. سيسقطها ويسقط معها قدرا لا بأس به من الخيبة، وبعض أحزان قديمة، وبقية مما ترك جرح قديم من أثر، في رأسه وعنقه.. ليس ثمة ما يدعو إلى الإبقاء على صورة قديمة بلا إطار، لا تفصح كثيرا عن حياة بائسة.. لا يجد فيها الرائي غير الظلال الداكنة لزمن غابر، وسنوات مُضيّعة بفعل الغفلة والتغافل وقلة الحيلة.
يرهف السمع إلى ذلك الصوت الجدِّي، الذي يدفعه دائما إلى جسارة القلب وقسوة رد الفعل: تخففْ من كل ما مضى.. كنْ خاويا تماما، كما هو عالمك الجديد.. بلا جذور بلا ذاكرة.. بلا ألم.. صُن لجراحك القديمة بهاءها.. ولا تُشعل أوارها في الذاكرة الباهتة.. حتى ملامحك القديمة انمحت.. نظرتك تبدلت.. ألق روحك -هل تذكره؟- كأن لم يكن.. مالك والصورة إذن؟
لا يُفترض في الصوت أن يكون حاسما على هذا النحو. لابد له بشيء من التحايل أو المناورة.. إنه حادٌ كنصل.. ممتنع في تسلط.. لا يمنحه تلك المسافة من التردد التي توجبها المساورة.. لكن شيئا ثقيلا مرهقا يتأبّى على كل ذلك! يسكب المَشَاهِد في تتابع دقيق.. فوق الذاكرة الهشّة المكبلة بالحنين.. وهو لا يستطيع حيال ذلك شيئا.. قال: أسقطني من صورتك إن استطعت.
كأنما سمع صوت قرين أيامه آنذاك.. وقد ملأه التحدي والعناد.. لا يقرُّ لهما قرار.. ضدان في كل شيء.. لكنهما لا يفترقان.. يتخاصمان لأيام بعد عراك دامٍ.. لكنهما يضعفان مع أول لقاء فيتعانقان.. القرين يسخر من كل شيء.. يقتحم العوالم غير هيّاب.. ناله من ذلك ما ناله.. لم يتغير كأنما قُدِّ من صلف.. أما هو فكان المُتنازع بين الأضداد.. لتمضي سنواته في تحوُّلات مضنية.. وتجارب آذته وشتَّتت شمله، وأورثته قلقلا وتهيبا وحزنا بغيضا؛ لا تزحزحه المسرَّات المتاحة على ندرتها.
فيما بعد سيراه حزنا شفيفا يُغْرِقُه في دوّامات الدمع.. يدنيه من حالة الاستسلام الكامل للوعة الفقدان النهائي.. مع تفلُّت الزمن وتراكم الخسائر في معارك اختارها بعناية؛ دون أدنى أمل في النصر.. ذلك اليقين الذي ذُبحت على عتباته كل بُشرى، تنبئ عن جدوى مسير طويل، أجهضه شعور عارم بالرغبة في الرضوخ لهزيمة.. تندُّ عن القلب كأنما هي نزُّ جرح غائر مقيم.
في مثول أخير.. أمام جدارٍ احتفظ بكل التفاصيل التي لم يُرِدْ قراءتها أو محوها.. سمع صوت صورته الكاملة التي جُمعت على نحو ما من عيون مبغضيه؛ عبر ثلاثة عقود كاملة.. صورة توحي بالثقة والكمال.. أخفت عيوبها بمهارة، وأبدت من آيات قوتها ما جعلها هدفا لصلوات تستعجل السقوط والضياع.. كل تلك الفخاخ التي نصبتها الأعين الفاحصة، أخفقت في إخراجه من الحلبة على نحوٍ نهائي.. يعود فيمْثُل دون ضجيج، وقد نال شيئا في غفلة من شانئيه.. تعتصر قبضتاه الحلم القديم، الذي ظل معلقا على ظل شجرة؛ فلا يبقى منه سوى نذرٍ من تحققاتٍ متباعدة، لا تقوى على التشكُّل في تأويل مقبول.. فلا يعيرها شيئا من اهتمام.
صورتك في أعين المبغضين هي الحقيقة.. دع عنك ما يقولون وما يروِّجون من أكاذيب أو مُجتزآت مخجلة.. نهاية كل ذلك تتجلى ناصعة.. مأثرة إلى جوار أخرى، أحرقت قلب أحدهم فالتهب لسانه بالنيل منك.. حديث تعرفه وينقل إليك بعضه – مهذبا نوعا ما- أشخاص يغريهم التثبت مما يسمعون، بعرض ما ترامى إلى آذناهم عليك، فتنكر بعضه وتعرض عن بعضه.. لكنك تأسى لهذا الجُهد في البحث والتدقيق فيما لا يفيد.. وأيضا تنتشي لأن أسماء بعضهم مجهولة تماما بالنسبة لك.. أما وجوههم فتزحم الصورة في خلفية باهتة، قبيحة وساذجة.. مستدعاة من جُبِّ الأيام الخالية.. لا تنحلُّ لها عُقَدُ الذاكرة، فهي لا ترقى للومضة الباعثة على الإمساك بطير التذكار السانح.
لا يتسع عالمه الجديد المجلل بالبياض لأشياءٍ، تخرج من رحم ماض عتيق.. يدور ناعقا في دائرة لا نهائية.. الحياة الآتية تغرق في هدوء شفيف وصمت متأمل، ورفقة لا حاجة بهم إلى الإنصات، ولا قدرة لديهم على المواساة.
إلى جوار حقيبة مشعثة.. وَجَم صندوق يضجُّ بما حوى.. مؤرقٌ على نحو ما.. بين سفرٍ وترحالٍ واغترابٍ أو ظلمة لا قرار لها تنتظره دون اكتراث.