لن تتوقف آثار ما حدث في سوريا، من سقوط نظام بشار الأسد وهروبه خارج البلاد، بعد “تسريحه” الجيش السوري؛ لتُصبح سوريا أمام إسرائيل “دولة منزوعة القدرات العسكرية”. لن تتوقف آثار ذلك عند حدود سوريا الدولة؛ بل سوف تمتد لتشمل الجوار الجغرافي -وربما جوار الجوار- وصولا إلى حدود ما أُصْطِلح على تسميته “الشرق الأوسط”.
هنا يأتي الخلاف التركي الأمريكي، حول قوات “قسد” الكردية في شمال سوريا، الذي يُعدّ أحد أبرز الخلافات الاستراتيجية بين البلدين، والتي لها جذور عميقة مرتبطة بالتحديات الجيوسياسية في المنطقة.
هذا الخلاف لم ينشأ فجأة؛ بل هو نتيجة لعدة عقود من التوترات المتراكمة بين أنقرة وواشنطن، حول عدد من القضايا المتعلقة بالقومية الكردية والتدخل العسكري، والسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
تاريخيا.. كانت تركيا دائما تُعارض أيَّ جهود لتعزيز القوة السياسية أو العسكرية للأكراد، سواء داخل حدودها أو خارجها؛ إذ ترى أن أي نوع من القوة الكردية المستقلة يمثل تهديدا لوحدة الأراضي التركية. منذ تأسيس حزب العمال الكردستاني (PKK) في السبعينيات، اندلع نزاع طويل بين الحكومة التركية والحزب الذي ينادي بحقوق الأكراد في تركيا، والذي تصفه أنقرة بـ “المنظمة الإرهابية”.
لكن، في سياق الحرب الأهلية السورية، استفاد الأكراد السوريون من حالة الفوضى التي اجتاحت البلاد، لتعزيز نفوذهم العسكري والسياسي في شمال سوريا؛ وشُكِّلَت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من تحالف “كردي-عربي” لمحاربة تنظيم “داعش”، حيث كانت القوات الكردية القوة الأساسية فيها.
ومنذ عام 2015، دعمت الولايات المتحدة “قسد” بشكل فعّال، حيث لعبت القوات الكردية دورا حاسما في هزيمة تنظيم “داعش” في شمال سوريا. هذا الدعم جاء ضمن إطار استراتيجية أمريكية أوسع، تهدف إلى القضاء على “الجماعات” التي تهدد المصالح الأمريكية وحلفائها.
وقد قدمت الولايات المتحدة أسلحة وتدريبات ودعما لوجستيا لـ “قسد”، ما أدى إلى تعزيز قوتها وتأمين سيطرتها على مساحات كبيرة من شمال شرق سوريا.
ومع ذلك.. فإن هذا الدعم الأمريكي أثار قلق تركيا، التي ترى أن “قسد” هي واجهة لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تهديدا لأمنها القومي. بالنسبة لأنقرة، فإن أي زيادة في النفوذ الكردي قرب حدودها الجنوبية، يعزز من احتمال قيام كيان كردي مستقل؛ قد يشجع الأكراد داخل تركيا على المطالبة بحقوق مشابهة.
تتعدد أبعاد الخلاف بين واشنطن وأنقرة، بخصوص تواجد قوات “قسد” في شمال سوريا.. فمن جانب، هناك ما يتعلق بالأمن القومي التركي؛ حيث تعتبر تركيا أن تواجد قوات قسد المدعومة أمريكيا على حدودها الجنوبية، يمثل تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
كما تخشى أنقرة أن يؤدي تعزيز قوة قسد، إلى خلق منطقة حكم ذاتي كردية قوية، يمكن أن تُستخدم قاعدةً لحزب العمال الكردستاني لتنفيذ عمليات داخل تركيا.
لهذا السبب شنت تركيا عدة عمليات عسكرية في شمال سوريا، مثل عملية “نبع السلام” عام 2019، وغيرها، بهدف تقويض النفوذ الكردي. ومن ثم، فإن العمليات العسكرية التركية المتكررة ضد قسد، تُعتبر أحد أبرز تجليات هذا الخلاف التركي الأمريكي.
من جانب آخر، هناك ما يتمحور حول السياسة الأمريكية في سوريا؛ فمن وجهة النظر الأمريكية، فإن قسد كانت الحليف الأكثر فعالية في محاربة تنظيم “داعش” في سوريا. لذا تعتقد الولايات المتحدة أن الحفاظ على علاقة قوية مع قسد، يمكن أن يساعد في منع عودة التنظيم. هذا النهج يركز على تحقيق الأهداف الأمريكية على المدى القصير، دون إعطاء الكثير من الاهتمام للتداعيات الطويلة الأمد على العلاقات مع تركيا.
من جانب أخير، هناك ما يختص بالتداعيات على حلف الناتو؛ إذ رغم أن العلاقات التركية الأمريكية تُعدّ ركيزة مهمة ضمن تحالف الناتو؛ لكن هذا الخلاف يعكس تحديات أكبر تواجه الحلف.
تركيا بدأت تنظر إلى سياسات واشنطن في سوريا، على أنها تتجاهل مصالحها الحيوية، ما أدى إلى توتر العلاقات بشكل كبير داخل إطار الحلف. ورغم أن الناتو لم يتدخل بشكل مباشر في هذا النزاع، إلا أن العلاقة التركية الأمريكية تُعدّ مؤشرا على تحديات أكبر يمكن أن تؤثر على التعاون داخل التحالف.
الخلاف حول قسد ليس مجرد قضية عسكرية، بل يعكس أيضا اختلافا جوهريا، في الرؤية بين تركيا والولايات المتحدة حول مستقبل سوريا، والمنطقة بشكل عام. تركيا تنظر إلى الأمور من منظور أمنها القومي ومخاوفها من الأكراد، بينما تركّز الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية الأوسع ومصالحها في المنطقة ككل.
ورغم أن الخلاف حول قسد أدى إلى توترات كبيرة بين البلدين، إلا أنه من غير المحتمل أن يصل إلى مستوى يهدد التحالف بينهما بشكل كامل. فتركيا والولايات المتحدة لديهما مصالح استراتيجية مشتركة في مناطق أخرى، كما أن كلا البلدين يدرك أهمية الحفاظ على علاقات قوية ضمن إطار الناتو.
مع ذلك، فإن مستقبل هذا الخلاف يعتمد بشكل كبير على التحركات الدبلوماسية المقبلة، وما إذا كان الجانبان قادرين على التوصُّل إلى تفاهم مشترك حول القضية الكردية. وفي حال فشل هذه الجهود، فإن احتمالات التصعيد العسكري ستبقى قائمة، ما قد يزيد من تعقيد الأوضاع في شمال سوريا ويؤثر على استقرار المنطقة بشكل عام.
وهكذا.. فإن الخلاف التركي الأمريكي حول قوات قسد الكردية، يُعدّ من القضايا الأكثر تعقيدا في العلاقات بين البلدين، حيث تتداخل فيه عوامل سياسية، عسكرية، وأمنية. ورغم التوترات القائمة، يبقى هناك احتمال في التوصل إلى حلول دبلوماسية تُرضي الطرفين؛ لكن في حال عدم تحقيق ذلك، فإن المنطقة قد تشهد تصعيدا جديدا في الصراع بين تركيا والأكراد، وهو ما قد يؤثر على التوازنات الإقليمية والدولية.
بعبارة أخرى، رغم أن التوترات بين تركيا و”قسد” ليست جديدة، لكن ما يجعل الموقف أكثر تعقيدا هو التدخل الأمريكي. إذ إن أي تصعيد تركي جديد ضد القوات الكردية، سيؤدي إلى وقوع مواجهات مباشرة أو غير مباشرة مع القوات الأمريكية الموجودة في شمال سوريا. هذا السيناريو يزيد من احتمال اشتعال مواجهات أكبر بين الجانبين، خصوصا إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من تهدئة الموقف.
هذا فضلا عن احتمال دخول الميليشيات المسلحة التي أسقطت نظام الأسد، وتدير شئون الدولة السورية الآن، على خط المواجهة التركية مع “قسد”؛ وهو ما يُنذر بإشكاليات إقليمية خطيرة، خاصة في ضوء الإسناد التركي لتك الميليشيات.. حتى دخوله دمشق.. دون قتال!