تُعدّ السياسة الأوروبية تجاه سوريا -ما بعد الأسد- من أبرز القضايا التي تشغل الأجندة السياسية الأوروبية، ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011. ففي خضم هذه الحرب، التي تحولت إلى نزاع معقد يشارك فيه أطراف داخلية وخارجية متعددة- يتجاوز اهتمام الاتحاد الأوروبي مسألة سقوط نظام الأسد، إلى النظر في الأبعاد الأوسع التي تشمل الأمن الإقليمي، قضايا الهجرة، والاقتصاد، بالإضافة إلى النفوذ الأوروبي في المنطقة.
تاريخيا.. وقبل اندلاع الانتفاضة في سوريا، كانت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وسوريا مشوبة بالتوتر والحذر، خصوصا بعد اتهامات أوروبية بتورط سوريا في قضايا التدخلات الإقليمية، مثل دعمها لحزب الله ودورها في لبنان. لكن مع اندلاع الانتفاضة السورية وما تبعها من أحداث، تبنى الاتحاد الأوروبي موقفا قويا يدين النظام السوري، وأصدر حزمة من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ضده.
عديدة هي القضايا محل الاهتمام الأوروبي، خاصة في هذه المرحلة التي تمر بها الدولة السورية.. ولعل أهم هذه القضايا:
– الأبعاد الأمنية: إذ يُعدّ الأمن الإقليمي والتحديات المرتبطة بالإرهاب من أولويات السياسة الأوروبية تجاه سوريا ما بعد الأسد. فقد تزايدت مخاوف أوروبا من تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم “داعش”، الذي استغل الفوضى في سوريا والعراق لتأسيس “دولة” على جزء من الأراضي السورية والعراقية. هذه الجماعات لم تكن تهديدا محليا فحسب، بل نفذت هجمات إرهابية في أوروبا نفسها، ما دفع الدول الأوروبية إلى تعزيز جهودها والتعاون مع الأطراف الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا.
بالإضافة إلى ذلك، تزايدت المخاوف الأوروبية من تدفق المقاتلين الأجانب من أوروبا إلى سوريا، للانضمام إلى الجماعات المسلحة، ومن ثم عودتهم إلى أوروبا لتنفيذ عمليات إرهابية. هذا الأمر دفع الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز التعاون الأمني بين دولِه، وكذلك التعاون مع دول الجوار السوري، مثل تركيا ولبنان والأردن، للحد من تسلل العناصر الإرهابية إلى أوروبا.
– الهجرة واللاجئين: تُعدّ قضية الهجرة واللاجئين واحدة من أكبر التحديات التي تواجه أوروبا، في سياستها تجاه سوريا ما بعد الأسد. مع تصاعد الحرب في سوريا، فرّ ملايين السوريين إلى دول الجوار مثل تركيا، الأردن، ولبنان؛ بينما حاول مئات الآلاف منهم الوصول إلى أوروبا، بحثا عن الأمان والاستقرار. هذا التدفق الكبير من اللاجئين خلق أزمات إنسانية وسياسية داخل الاتحاد الأوروبي، حيث اختلفت الدول الأوروبية، حول كيفية التعامل مع اللاجئين وتوزيعهم بين الدول الأعضاء.
وكما يبدو.. أصبح الاتحاد الأوروبي مُطالبا بتبني سياسة متوازنة تجاه قضية اللاجئين السوريين، حيث يسعى -من ناحية- إلى تقديم الدعم للدول المضيفة في المنطقة لتخفيف الضغط على أوروبا؛ ومن ناحية أخرى، يبحث عن حلول بعيدة المدى تشمل إعادة إعمار سوريا وإعادة اللاجئين إلى وطنهم، لكن هذه الحلول تعتمد بشكل كبير على تحقيق استقرار أمني وسياسي في سوريا، في المستقبل القريب.
– الاقتصاد والإعمار: في حال الوصول إلى تسوية سياسية، سيبرز موضوع إعادة إعمار سوريا بوصفه أحد القضايا الأساسية. ومن ثم.. فالاتحاد الأوروبي -باعتباره أحد أكبر المانحين في العالم- قد يلعب دورا حاسما في هذه المرحلة. لكن مشاركته في إعادة الإعمار ستكون مشروطة بعدة عوامل، أهمها تحقيق انتقال سياسي شامل وضمان حقوق الإنسان، والحريات المدنية في سوريا ما بعد الأسد.
والملاحظ.. أن إعادة الإعمار في سوريا، ستتطلب استثمارات ضخمة، تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وهذا لن يكون مُمكنا دون دعم دولي كبير. وإذا كان الاتحاد الأوروبي لديه القدرة الاقتصادية والخبرة في إعادة إعمار الدول المتضررة من النزاعات، كما حدث في البلقان وأفغانستان، لكنه لن يقدم هذا الدعم دون ضمانات، بتبني النظام الجديد في سورية، إصلاحات سياسية واقتصادية، تُخرجها من دائرة الفساد والاستبداد. هذا، فضلا عما يواجهه الاتحاد الأوروبي من منافسة قوية من دول أخرى، تسعى إلى لعب دور رئيسي في إعادة إعمار سورية، مثل روسيا وإيران، اللتين قدمتا دعما عسكريا لنظام الأسد.
هذا قد يؤدي إلى صراع على النفوذ في المرحلة القادمة، حيث تسعى كل قوة إلى تعزيز مصالحها في سورية ما بعد سقوط النظام.
– استعادة النفوذ: إحدى أكبر القضايا التي تشغل بال الأوروبيين، هي تراجع نفوذهم في الشرق الأوسط بشكل عام، وسورية بشكل خاص، لصالح قوى أخرى مثل روسيا وإيران. منذ بداية الصراع السوري، اضطرت أوروبا إلى لعب دور ثانوي خلف الولايات المتحدة وروسيا، إذ كانت هذه القوى تتحكم في مسار الصراع من خلال التدخلات العسكرية والدبلوماسية؛ حيث اضطرت أوروبا إلى الاكتفاء بالدور الإنساني، والضغط الدبلوماسي من خلال العقوبات.
وبالتالي، فاستعادة النفوذ الأوروبي تتطلب استراتيجيات جديدة، تشمل الانخراط بشكل أكبر في العملية السياسية السورية، من خلال دعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية، بالإضافة إلى تقديم حوافز اقتصادية لإعادة الإعمار، والضغط على الأطراف المختلفة لتحقيق انتقال سياسي سلمي.
لكن هذا الأمر يعتمد بشكل كبير على مدى استعداد الأطراف الفاعلة الأخرى، مثل روسيا وإيران، إضافة إلى تركيا، للقبول بدور أوروبي أكبر في مستقبل سوريا.
– العلاقات الأمريكية: السياسة الأوروبية تجاه سورية ما بعد الأسد، لا يمكن فهمها بعيدا عن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إذ رغم الخلافات التي ظهرت بين الجانبين حول قضايا، مثل الاتفاق النووي الإيراني، أو الانسحاب الأمريكي من الاتفاقات المناخية، إلا أن هناك توافقا كبيرا بشأن القضية السورية.
لكن.. بينما تفضل الولايات المتحدة الحل العسكري ودعم بعض الجماعات المسلحة، تُركِّز أوروبا أكثر على الحلول الدبلوماسية والإنسانية. هذا التباين قد يستمر في مرحلة ما بعد الأسد، حيث ستحاول أوروبا تجنب الانخراط في الصراعات العسكرية المباشرة، والاعتماد أكثر على قوتها الاقتصادية والدبلوماسية.
وهكذا.. تعتمد السياسة الأوروبية تجاه سورية -ما بعد الأسد- على عدة عوامل متشابكة تشمل الأمن، الهجرة، الاقتصاد، والنفوذ الإقليمي. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجه الاتحاد الأوروبي في تحقيق أهدافه، إلا أن هناك فُرصا سوف تحاول أوروبا، أو القوى الأوروبية المتنفذة بالأحرى، استغلالها. لكن هذا يتطلب تنسيقا وثيقا مع القوى الدولية الأخرى، خصوصا الولايات المتحدة؛ وهو ما سوف يُشكل تحديا كبيرا لأوروبا، خاصة في مرحلة ولاية دونالد ترامب.