مختارات

قرار المحكمة الدولية

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عُمان

حسين عبد الغني

عدم صدور قرار فوري من محكمة العدل الدولية أمس الأول بوقف إطلاق النار لم يكن أبدا هزيمة للشعب الفلسطيني. وهو بأي درجة من الإنصاف والنزاهة خطوة ايجابية ولكن في طريق طويل قد يكتمل وقد ينتكس مثل خطوات وفرص أخرى لاحت لنا كأمة ولكنها سرعان ما تلاشت.

لكن بنفس الدرجة من الإنصاف لا يمكن وصف قرار المحكمة الدولية بأنه انتصار حاسم والدليل أنه أتاح الفرصة للحكومة الإسرائيلية -التي قتل جيشها وأصاب ١٠٠ ألف فلسطيني في 3 أشهر ونصف – لكي تدّعي أن المحكمة أبقت لإسرائيل على ما أسماه كذبا بحق الدفاع عن النفس وأنها اجتازت اختبار المحكمة بثمن بخس للغاية.

القرار في روحه وكذلك في الأسباب والمقدمات التي أسست المحكمة بها لحكمها والإجراءات التي طالبت إسرائيل فورا بتطبيقها يميل بشكل كبير إلى منطوق دعوى جنوب إفريقيا وبالتالي للعدالة ويكسر ثقبا في جدار سميك من إفلات إسرائيل من العقاب طيلة ٧٥ سنة بسبب الحماية الغربية عموما والأمريكية خصوصا.

إلا إنه مقارنة بحكمه الصريح بوقف الحرب فورا في أوكرانيا في مارس ٢٠٢٢، نجده هنا وقد انطوى على قدر نسبي من الغموض مما أعطى لكل طرف الفرصة لتفسيره أو على الأصح تفسير أجزاء منه تفسيرا مختلفا بل ومتناقضا.

لم يكن السبب في هذا الغموض وعدم الحسم راجعا بأي صورة من الصورة إلى حقيقة أننا أمام مثال غير مكتمل لعملية إبادة جماعية.. فالحقيقة أن نصوص الاتفاقية الدولية الصادرة عام ١٩٤٩ تنطبق بحذافيرها على جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.

كما لا تتعلق أبدا بنقص في كفاءة واقتدار العرض القانوني الذي قدمه وفد دولة جنوب إفريقيا أمام المحكمة وأشادت به كل المنظمات الحقوقية المستقلة.

ولكن ترتبط بحقيقة توازن القوى السياسي المحيط بالحرب في غزة والذي جعل قرار المحكمة في جوهره عبارة عن توازن دقيق بين السياسة والقانون وليس قرارا قانونيا مهنيا تماما. وعادة ما يؤدي السعي إلى التوفيق بين عاملين متناقضين في صيغة قرار إلي إنتاج غموض يجيره كل طرف في النزاع لمصلحته. أشهر مثال تاريخي على ذلك ويعرفه العرب وعانوا منه أشد المعاناة حتى يومنا هذا هو القرار ٢٤٢ لمجلس الأمن الدولي وهل هو انسحاب من كل الأراضي المحتلة بعد ٤ يونيو أو من أراض محتلة.

حظي قرار المحكمة بشأن وقف فوري لإطلاق النار في حرب أوكرانيا بدعم سياسي مطلق من الولايات المتحدة المتحكمة في النظام الدولي القائم ومؤسساته السياسية والمالية والقانونية وبالتالي ورغم الاعتراف بأن المحكمة ليست أداة سياسية مباشرة لواشنطن ويتمتع قضاتها بقدر نسبي من الاستقلال إلا أنه من باب المثالية الموجبة للسخرية توقع أن قرارات المحكمة يتم استنباطها واستخراجها من نصوص الاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الدولي بعيدا عن واقع العلاقات الدولية وحقائق القوة السياسية التي تمثل السياق بكل نزاع يعرض على هذه المحكمة.

الحالة الأوكرانية يمكن وصفها بأنها حرب بالوكالة تخوضها كييف نيابة عن الولايات المتحدة ضد الطرف المشكو بحقه والمدعى عليه وهو روسيا. العكس تماما هو في دعوى جنوب إفريقيا/ غزة إذ أن المشكو في حقها والمدعى عليها وهي إسرائيل هي التي تقوم بحرب وكالة عن واشنطن لحماية مصالحها الهائلة في الشرق الأوسط، ومصدر التأثير السياسي واتجاه الريح وهي واشنطن يقاوم أن يصدر قرار حاسم بوقف العمليات العسكرية لأنها تريد منح إسرائيل كل الوقت الذي تحتاجه لتحقيق ولو حتى صورة نصر تقوم بتسويقه إعلاميا.. هذه الحرب التي تفلت أهدافها يوما بعد الآخر من قبضة يدها و قبضة جيشها رغم كل الوحشية والدموية التي يمارس بها حربه.

الولايات المتحدة التي تتحكم في السياق السياسي والبيئة السياسية التي تحيط بقرارات المحكمة الدولية وقرارات مؤسسات النظام الدولي كافة كانت بين عنصرين متناقضين تهدف إلي التوازن بينهما الأول هو الحفاظ على ما تبقى من مصداقية ما للنظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية وهو النظام الذي طورت واشنطن دينامياته وآليات العمل في مؤسساته السياسية والمالية والقانونية بحيث يكرس هيمنتها على نظام العلاقات الدولية.. وكان قرار للمحكمة يتجاهل جريمة الإبادة الجماعية لغزة التي تراها البشرية على مدار الساعة لـ ١١٥ يوما حتى الآن ليكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على هذا النظام الدولي خاصة بعد إصابة مجلس الأمن بالشلل التام.

وهنا سمحت واشنطن بمساحة أو فرجة للمحكمة رفضت فيه طلب إسرائيل بإسقاط الدعوى وقالت إنها مختصة بنظر القضية واتخاذ تدابير فورية لحماية الفلسطينيين كمجموعة عرقية قد تكون معرضة لإبادة جماعية من جيش الاحتلال وهو ما مثل سابقة في وضع إسرائيل في قفص الاتهام. سابقة تاريخية فهم نتانياهو مغزاها الخطير وأصابته بالجنون والهياج في رد فعله وتعليقه على قرار المحكمة. الهدف الثاني المتعارض الذي كانت واشنطن تحاول الحفاظ عليه في نفس الوقت هو الحفاظ على كبريائها، وكبرياء إسرائيل السياسي وعدم خسارة ماء وجهيهما بالاضطرار إلى الاعتراف بالفشل في حربهما على المقاومة وما يعنيه من تراجع علني نحو قبول مطلب وقف الحرب ولهذا لم يكن بوسع المحكمة المضي إلي النهاية مع المقدمات المنطقية التي ذكرتها في بداية حكمها فاكتفت بالتدابير المحدودة التي أصدرتها وكانت تحت سقف التوقعات العادلة للقضية والدعوى.

توازن القوى السياسي الذي وقف بحكم المحكمة عند أقل من نصر وأكبر من هزيمة كان أحد أسبابه إصرار النظام العربي الرسمي على إعطاء أمريكا كل مفاتيح الأزمة من أول يوم وحتى الآن ومساعدتها في إقصاء كل الأطراف الدولية التي كان بوسعها توفير بيئة سياسية دولية توازن الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل والتطابق الحقيقي بين أهدافهما الاستراتيجية على حساب العرب عموما والفلسطينيين خصوصا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock