عام

هويتنــــا أو هاويتنــــــا؟

ليس في عنوان هذا المقال أية مبالغة. نعم علينا أن نختار إما هويتنا أو هاويتنا. إما أن نبقى أو نموت. فحالة الانحطاط العربية فاضحة ولا تحتاج إلى دليل. وللانحطاط الراهن أسباب كثيرة ومظاهر أكثر. سأتجاوزها جميعا لأركّز من بينها على تفريطنا المخجل في هويتنا. فنحن والعدم سواء؛ إذا لم نُبْقِ لأنفسنا هوية واضحة تميزنا، نعتز بها ونجعلها عنوانا لوجودنا في العالم، ينفرط عقدنا إذا ما فرَّطنا فيها. وليس كافيا أن ننسب الانحطاط العربي المعاصر، إلى فقر السياسات التي اتبعتها أقطار عربية عديدة منذ استقلالها، وإنما يجب أن نفحص رءوسنا وما فيها من تشوهات.. أهمها تشوه الهوية، إذ يبدو من أفعالنا أننا نسينا من نحن. ومن لا يعرف من هو، فلن يعرف إلى أين يذهب، أو كيف يجب أن يعيش.

لقد تساهلنا بل تهاوننا كثيرا بشأن هويتنا؛ فبدأنا السير نحو هاويتنا. وهاويتنا تبدو مرعبة؛ لأنني لا أجد من تحتها تحت. وليس لنا مهرب من الهاوية؛ إلا العودة إلى ثوابت الهوية. فلا يعقل أن نترك أنفسنا لما حولنا من متغيرات، دون أن نحدد لأنفسنا ثوابت. والهوية أهم ثابت يعصمنا من السقوط. وبرغم أنها موضوع شائك، وفتحه معقد، وليس من السهل حسمه بكلمة، إلا أنه لنفس الأسباب موضوع هام إلى درجة لا يمكن تجاهلها. فالعقلاء فقط هم من يتذكرون من هم. وعلينا -إن كنا عقلاء- أن نتذكر من نحن؟ ومن نكون؟ ماذا نحب؟ وما الذي نريد؟ ومن الأقرب لنا؟ ومن الأخطر علينا؟

الهوية ببساطة شديدة، بعيدا عن التعقيدات النظرية، هي أن تعتز بطبقك المفضل، وأن تحافظ على ملبسك الوطني، وأن تكون لك لغة أُمٌ؛ تتعلم وتتواصل وتعيش يومك بها، تأنس إليها عن كل لغات الكون.

الهوية هي أن تحب لون بشرتك، وشكل عينيك، وطبيعة شعرك. هي أن تعرف تاريخ بلدك بأبطاله ورموزه. هي الألعاب الشعبية، والمأكولات المحلية، وعادات الأفراح والمآتم، وشكل الشوارع، وأسماء المحلات، وتصميم الأسواق. الهوية هي القصة التي يرويها الناس كل ليلة وكل يوم، لأبنائهم في المدارس، والبيوت، والشوارع، والنوادي.. بلا ملل؛ لكي يظلوا جيلا بعد جيل على قيد الحياة.

لكن العرب -دون أن أعمم أو أخصص- توقفوا عن جعل الهوية سرديتهم الأولى لأطفالهم. لقد أصبح ملايين منهم كسالى، راحوا يتنازلون لدول أجنبية، ومعلمين أجانب، وجامعات أجنبية، وقصص أجنبية، وفضائيات أجنبية، وجهات اعتماد أجنبية، عن تكوين ما في رءوس أبنائهم. وسواء جرى ذلك عن عمد أو حسن نية، والأرجح أنه الأول، فقد راح الوافد الأجنبي يزعزع ملامح الهوية العربية، في ذهن الصغار والشباب؛ بل وحتى الكبار. لقد تركْنا مشوهي الهوية يتسللون بيننا، وأرخينا لهم الحبل على الغارب؛ فتحوَّل من تشويهٍ مؤقتٍ عابرٍ، إلى تشويهٍ مؤسسيٍ منتظمٍ. تشويه لا يعتمد على بعض المحاولات الفردية الخبيثة، وإنما تكونت له مؤسسات، وأصبح له رعاة، من فرط ثقتهم بأنفسهم لم يعودوا يرون فيما يمارسونه تشويها، وإنما استحقاق لا شك أن سكوتنا عنه هو ما سمح لهم بالإحساس الزائف بقيمة ما يفعلونه؛ ليروِّجوا أنهم يساعدوننا؛ كي نصبحَ معتمدينَ حضاريا، ومؤهلين للدخول في زمرة الشعوب المتطورة.

ولو أمعنت النظر في قطاع بعينه، تتجلى فيه مخاطر الهاوية، نتيجة ضياع الهوية؛ فلن يكون أوضح من قطاع التعليم. فلدى كل بيت طفل واحد على الأقل في رياض الأطفال، أو تلميذ في مدرسة، أو طالب في معهد أو جامعة. والأسوأ من التشويه اللغوي والثقافي والأخلاقي الذي يجري لهؤلاء على يد أساتذة ليسوا منا ولا نحن منهم، تسابق الآباء أنفسهم على وضع أبنائهم في بيئات تعليمية، تمسخ هوية أبنائهم. قد يكون الآباء معذورين. لكنهم باليقين مسئولون. فهم كثيرا ما يشكون مما يجري لأبنائهم؛ متناسين أنهم من قدموا أولادهم ضحية لتمزقات الهوية. فإذا كانت قلوب الآباء تعتصر ألما؛ عندما يرون أطفالهم عائدين إلى البيت بلغة ليست لغتهم، وبأفكار وتصرفات تصدم ذويهم، إلا أنهم -أي الآباء- هم من انساقوا وراء التسويق المكثف للمدارس والمعاهد الجامعات الأجنبية، على حساب الاهتمام بمؤسسات التعليم الوطنية. لقد أرسلوا أبناءهم دون أن يحسبوا حساب المستقبل، عندما يصدمهم أبناءهم بما يقاسونه من تشوه في هوياتهم. لم يعد أكثر الآباء يسأل أين وكيف وماذا وعلى يد من يتعلم صغارنا؟ بل سقطوا في اختبار الإغواء الدعائي للإعلانات واللغات الأجنبية؛ واضعين صغارهم على أول الطريق نحو الهاوية. ففي كثير من المدارس والجامعات التي تهافتت عليها الأسر العربية، كانت العلوم تقدَّم بيدٍ بينما تُسحب القيم والهوية باليد الأخرى. نحن أولياء الأمور إذن من يُعرِّض صغارنا إلى مسخ الهوية، ولا يحق لنا أن نعود لنشكو من النتيجة. نحن الكبار من فقد هويته قبل الصغار، عندما آمنا بسذاجة أن التعليم الأجنبي هو المدخل إلى النجاح والحداثة واللحاق بركب التقدم.

ولو أجال الواحد منا نظره في دوائر مسخ الهوية سيصاب بالهلع، لأن التعليم المفسد للهوية واكبته قاعدة اقتصادية تالفة؛ بدلا من أن تقطع علاقة بلادها بالتبعية راحت تكرسها. فكل المشروعات التي أقدمت عليها الدولة في المنطقة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم سواء التعليمية أو الخدمية أو البنكية أو الترفيهية أو الغذائية كانت بالتأجير لأجنبي، أو بوكالة من أجنبي، أو بالشراكة مع أجنبي. لأن الاقتصاد التابع للمراكز الرأسمالية لا يهمه غير التربح؛ فقد انفتح الباب على مصراعيه لكل أشكال التجارة، بما في ذلك بيع الهوية أو تشويهها وهدمها. أليس أمرا لافتا -على سبيل المثال- أن يتواكب مع تشويه الهوية في المدارس تشويهها في الأسواق التجارية؛ حيث يكافح الواحد منا لكي يجد اسم متجر غير مكتوب باللغات الأجنبية.

إن الأجانب في أي مكان من العالم -بما فيهم في منطقتنا- يجب أن يلقوا الترحيب لأنهم يعملون ويتفاعلون ويعيشون، كما أننا -نحن العرب- نعتبر أجانب عندما نذهب لنعيش أو نعمل أو نتعلم في بلاد أجنبية. لكن لماذا لا ينطبق عليهم ما ينطبق علينا؟ أنا لم أسمع عن أستاذين انجليزيين مثلا يتكلمان في مدرستهما في مانشيستر بالألمانية، أو باحثتين إسبانيين تتحدثان مع بعضهما في جامعة مدريد بالهولندية. لكن في بلادنا يُحمل العرب طلابا وأساتذة -في أكثر من مكان- على أن يقبلوا بأن تكون العربية لغةً ثانية، هذا إن وجدوا فرصةً أصلا للحديث بها.

اللغة بالطبع ليست كل الهوية. لكنها عصبها الأهم، إذ تتحلق حول مفرداتها منظومة متكاملة من القيم والمعاني؛ لترسم لنا خيالا يختلف تكوينه وتفاصيله وأحلامه؛ إن تُركنا نتواصل بلغة أخرى. لهذا فتشويه اللغة الأم تشويه للخيال الذي هو بدوره سبب لتشويه الهوية؛ لأن الهوية حتى لا نبالغ تنبني على الخيال. وهذا-تماما- ما يجري للعقل العربي -بالذات للصغار- حيث تنهدم خيالاتهم، وتتغير تصوراتهم بتغيير وتهميش لغاتهم.

إن لغةً جديدة تُفقد حول العالم كل أسبوع -وفق منظمة اليونسكو- معظمها لمجموعات من السكان الأصليين المتناثرين في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. وباختفاء تلك اللغات تختفي المجموعات التي كانت تتكلم بها؛ حيث تضطر لأن تذوب وتندمج في جماعات أكبر منها؛ لتصبح أثرا بعد عين. واللغة العربية التي كونت هوية تلك الأمة لقرون؛ لن تنقرض بتلك السهولة لأسباب عديدة؛ أهمها أنها لغة القرآن الكريم، لكنها باتت تُقرض وتُقرص وتهرس وتُنهش على الملأ. فهي عُرضة لتهميشٍ مؤسسيٍ متسارعٍ ونبذٍ منهجيٍ متزايدٍ بكل أسفٍ من أهلها؛ قبل أن يكون بتشجيع من خصوم حضاريين، يعرفون ماذا يريدون من هذه المنطقة، ويفهمون أن ضعف اللغة العربية فيها، شرط لازم لإضعاف الهوية العربية، وبالتالي قتل معنويات سكانها، وتكريس الدور المرسوم لهم في النظام الدولي؛ بحيث لا يزيدون عن مقدمي مواد أولية أو أسواق تتلهف للمنتجات الأجنبية.

لقد بلغ السيل الزبى وبات التيار عاتيا. أشعر به بعد أن تخطيت الستين من عمري. وهو أمر عجيب لأن المفترض فيمن هم في مثل سني ألا تؤرقهم مسألة الهوية، بعد أن عاشوا حياتهم وأجابوا عن قدر كبير من أسئلتهم، وعرفوا من هم. لكني أجد نفسي كل يوم أمام تمزقات مؤلمة تهدد هويتي، وضغوط تحملني أحيانا على أن أعيش بهوية غير هويتي. فإذا كان هذا هو حظ من قارب على وداع الحياة مثلي؛ فما بالنا بالقلق على مصير الأصغر منا سنا؟

إن هويتنا تضيع من بين أيدينا لأكثر من سبب، ليس إهمال اللغة العربية والثقة المزورة في اللغات الأجنبية إلا واحدة فقط من بينها. لكنها تضيع كذلك بسبب قصور السياسات العامة، التي يجب أن تبدأ قبل الخوض في الأرقام والفنيات، بمعرفة هوية المجتمع الذي تخدمه. كما أنها تضيع في ظل تراخٍ عربيٍ أمام أجيال جديدة سيئة للغاية من المستشرقين الجدد، الذين توافدوا إلينا بأفكارهم وممثليهم؛ ليس فقط ليدرسوا أحوالنا وإنما ليبلغونا باستعلاء واستخفاف، بأننا متخلفون وتافهون، ولا نزيد عن “فتافيت” طائفية ومذهبية لا تقوى على التماسك، وبالتالي ليست لنا القدرة على التفكير؛ حتى في تحديد من نحن. ومثل هؤلاء لا هم لهم إلا إشعارنا بالدونية؛ حتى نكره أنفسنا وننسى هويتنا لنسير إلى هاويتنا. فليحذر ذوي الألباب؛ لأن القادم أمامنا رأي العين سيكون أغرب من كل ما سبق. إذ لن تعود المنطقة بعد كل ما حدث فيها خلال الربع الأول من هذا القرن إلى سايكس بيكو من جديد، وإنما ستذهب بمكوناتها الاثنتين والعشرين المعروفة إلى عدد جديد، ربما يصل إلى ضعف هذا الرقم؛ لتضم فسيفساء لا تطيق بعضها، ولا تشترك في شيء إلا في أنها فرَّطت في هويتها فلقيت هاويتها.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock