رؤى

هذا هو الخطر الأكبر.. على المشتغلين بالعلوم الاجتماعية!

عادة ما يلازم القلق المشتغلين بالعلوم الاجتماعية. فمن يتمعنون في هموم الناس، ويتابعون أوجاع المجتمع، ويبحثون في دموية التاريخ، ويتفحصون مؤامرات السياسة، ويرصدون مظاهر الظلم الاقتصادي والقهر الاجتماعي – غالبا ما يرافقهم الأرق وتصاحبهم اللوعة. هذا هو حال غالبية المشتغلين بالعلوم الاجتماعية. علوم لا يمهر فيها إلا من يغوص في أعماق الإنسان، ويستشعر عذابات المجتمع؛ فيفتش فيها ميدانيا.. ولا يكتفي بالتعرض لها نظريا.

القلق هو الطابع الأصيل لعمل المشتغلين بالعلوم الاجتماعية؛ لأن المتوقع منهم أن يعيشوا مع الناس، وأن يختلطوا بهم فلا ينظروا إليهم أو يتعاملوا مع قضاياهم من بعيد أو من فوق أبراج عاجية.

الإحساس بآلام الضعفاء، والالتفات إلى هموم الناس، من مسئوليات المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، وهو ما تطور لديهم بدفع من ضمائرهم، والتزاما بواجبات تخصصاتهم، على حد سواء. وبرغم تقيدهم بأصول البحث العلمي، كالموضوعية والحياد وتجنب التفكير بالعاطفة، إلا أن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية؛ لا يستطيعون التجرد بالكامل من عواطفهم أو التنكر لدوافعهم الأخلاقية. ولا يرجع ذلك فقط إلى أنهم بشر، وإنما يرجع أيضا إلى أن العلوم الاجتماعية علوم مشاعر وأفكار وأحاسيس وقناعات ودوافع وميول وترجيحات، تغذي في النفس البشرية حب الاصطفاف مع المقهور والضعيف، وترسخ في العقل الإنساني قناعة الانتصار لقيم الحرية والعدل والمساواة. كما أنها علوم تطورت من أجل هدف أسمى، هو تنوير عقول الناس وتغيير وعيهم؛ ليكون مستقلا ومنتبها، فلا يقبل بالضيم أو الحيف، ولتكون تصوراتهم عما حولهم سليمة، وبخاصة عن القوة ومن يملكها، والعدل ومن يخل به، والظلم ومن يُحْدِثُه، والحرية ومن يمنعها، وملكة النقد ومن يَحُول دون تعلم الناس لفنونها. وهذا كله كفيل بتعريض المشتغلين بالعلوم الاجتماعية للخطر. فتنوير العقول وإعادة تشكيل وعي الناس وإن عُدّت من الواجبات من وجهة نظر العلوم الاجتماعية، إلا أنها في تقدير المستفيدين من بقاء الأوضاع على ما هي عليه جريمة تستحق العقوبة.

ولم يكن غريبا لهذا السبب أن تصبح وظيفة المشتغلين بالعلوم الاجتماعية كفاحية، وأن تتسبب تلك الوظيفة الكفاحية، في إحالة حياة كثير منهم إلى جحيم. وهو ما تكرر عبر التاريخ، وبالذات في البلدان الفقيرة في رصيد الحريات، حيث لا يُسمح للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية بالاقتراب من رءوس الناس إلا بمقدار، أو الدخول إلى عقولهم إلا بتوجيه، أو إعادة بناء الوعي العام إلا بأمر. فرءوس الناس في تلك البلدان ليست ملكا حرا لأصحابها، وإنما حق حصري للدولة تتصرف فيها كيفما تشاء، وليس لمثقف أو مشتغل بالعلوم الاجتماعية أن يتجرأ فيقترب منها؛ خشية أن يتعرف الناس على وعي جديد، يخالف ذلك الذي عودتهم عليه الدولة.

ومن يجرؤ فيقترب محاولا تحرير العقول، واسترداد الوعي- يعاقب على الفور. ربما تشوه سمعته، أو يبعد عن وطنه، أو يفصل من جامعته، أو يلغى اسمه من جدول المحاضرات، أو تُهمش أعماله، أو يُغتال معنويا، بل ويمكن أيضا أن يُصفى جسديا. هذا أمر مؤلم تعرض له كثيرون، ممن أخذوا على عاتقهم، رسالة العلوم الاجتماعية على محمل الجد، في البلدان الفقيرة في الحريات.

ولأن الثمن الذي يدفعه المشتغلون بالعلوم الاجتماعية في تلك البلدان باهظ، فإن كثيرا منهم يؤثرون السلامة، فيعيشون على هامش المجتمع، يقدمون له كلاما ساكتا، ويطفون على صفحته كبقعة زيت على وجه الماء، كما شبههم الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود. يتلامسون مع الناس، لكنهم لا يمتزجون بهم ولا يعبرون بالمرة عن مشكلاتهم، أو يغيرون شيئاً في نمط حياتهم.

ولو أخذنا علوما مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والإعلام في الاعتبار، وكيف يجري تدريسها في جامعاتنا العربية، سنجد أن رسالاتها ما تزال غير مفهومة، لا من المجتمعات ولا من الحكومات. المجتمعات تعتبرها تخصصات جامعية أبسط من علوم الطب والهندسة، يمكن من خلالها نيل شهادات جامعية بسرعة أكبر وسهولة أكثر. وأما الحكومات فتقبلها وتسمح بها ليس لتمكينها والنزول على رأي أصحابها والاستفادة من قيمتها، وإنما لفتح قنوات جديدة لامتصاص خريجي المدارس الثانوية، وللوفاء بالعهد الذي ندمت أنها قطعته يوما ما؛ بجعل التعليم العالي مفتوحا للجميع.

أما العلوم الاجتماعية والمشتغلون بها فمنطقهم مختلف. فهذه العلوم تطورت مثل أي علوم أخرى، من أجل مساعدة الإنسان؛ لكي تكون حياته أكثر رفاهية وحرية وسعادة. فإذا كانت علوم مثل الطب والصيدلة والهندسة، تنتج علاجات ومخترعات جديدة تريح الإنسان، فإن العلوم الاجتماعية تنتج أفكارا ونظريات ومقترحات تهدف إلى جعل ممارسة السلطة أعدل فلا تستبد، ووعي الإنسان بنفسه أكمل؛ حتى لا يُستعبد. لكن هذه الرسالة ما تزال غائبة في بلادنا العربية الفقيرة في العلم والحرية معا برغم أن عمر العلوم الاجتماعية فيها ليس بقصير، كما أن أعداد خريجيها ليس بقليل.

ولأن الناس، بل والمؤسسات أيضا، أعداء لما يجهلون، فقد عادت الحكومات والمجتمعات العربية، بطرق عديدة، المشتغلين بالعلوم الاجتماعية الملتزمين بأصولها. فالحكومات إلى الآن لم تعترف بقيمة الخطاب النقدي الذي يتبناه المشتغلون بالعلوم الاجتماعية، بل كثيرا ما بالغت في الطعن فيه وفيهم، وفي مخاصمته ومخاصمتهم، بل والعمل على إلحاق الضرر بمن يتجرأ منهم على التفكير في نشره بين الناس.

وأما المجتمعات، وبرغم أنها ضحية شأنها شأن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، فقد تماهت مع الحكومات فأصبحت عقولها مستلبة بخرافات وأوهام وأفكار معلبة؛ جعلتها تنبذ الخطاب الفكري للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية، برغم اهتمامه بخدمة قضاياهم؛ لينتهي الأمر بكثير من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، وهم يطعنون من بعض العامة في وطنيتهم وأحيانا أخرى، في دينهم ليجري تخوينهم وتكفيرهم وتصويرهم على أنهم طابور خامس معاد للسلطة، ومنشق على المجتمع بقيمه وعاداته.

كل هذه أخطار حقيقية لا يجب الاستخفاف بها عند تأصيل تاريخ معاناة المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في الوطن العربي. لكن هذه الأخطار على جسامتها لا ترتقي للخطر الأكبر الذي يهددهم، والذي لا يأتيهم من بعيد، وإنما يضربهم من قريب جدا. خطر لا يتعرضون له من خارج مؤسساتهم سواء من سلطة تعادي العقل أو مجتمع يكره التفكير الحر، وإنما من الداخل، من قلب قاعات الدرس التي يحاضرون فيها. إنه طلابهم. نعم طلابهم.

الطلاب بالنسبة للأستاذ الجامعي بشكل عام، ولأستاذ العلوم الاجتماعية بشكل خاص، أشبه بالشعب بالنسبة للحاكم. هم معه إن أحسن وعليه إن أساء. يعلون قدره إن أفلح في أداء واجبه، وينالون منه إن أخل بمسئولياته. رضاؤهم هو مقياس شرعية الأستاذ. تلك الشرعية التي يحتاجها ليكون أستاذ. يكتسبها إن وثقوا أنه يؤدي وظيفته بشكل سليم، ويفقدها لو أثار استياءهم، وتسرب إليهم الشك في أنه لا يصلح لتحمل الرسالة الكفاحية للعلوم الاجتماعية. المشتغل بالعلوم الاجتماعية مع طلابه، مثل الحاكم في علاقته بشعبه. قد يعتبره الطلاب مغتصبا للسلطة إن لم ينتبه إلى توقعاتهم. وهم يتوقعون منه حدا أدنى لا ينزل عنه. شباب صغير السن متحمس للمبادئ العلمية والمثل الأخلاقية والقيم المدنية، وبالتالي لا يتوقعون من المشتغل بالعلم الاجتماعي أن يكون مثلا، انتهازيا يستغل فرصة، أو منافقا لحكومة، أو مداهنا لحاكم، أو منحازا لأيديولوجية، أو داعيا لقبلية، أو ناشرا لكراهية، أو مبررا لعنصرية، أو طائفية، أو مذهبية. وإنما يتوقعون منه، على النقيض، أن يقدم لهم دواءً لهذه الأمراض التي يعرفون أن بعضها وربما كلها كامن في مجتمعاتهم.

هؤلاء الطلاب، أو سند الشرعية الحقيقي للمشتغل بالعلوم الاجتماعية، أذكياء جدا مهما تكاسلوا أو بدا أنهم قد تغافلوا. قد يستخف البعض منهم بواجباته، لكن على المشتغل بالعلوم الاجتماعية ألا يستخف بهم حتى يكسب احترامهم، وأن يكلمهم بشجاعة عن آلام المجتمع المزمنة ومسبباتها مهما كلفه ذلك من ثمن، لأنهم ليسوا بغافلين عنها، ولأنهم يتوقعون منه إجابات تشرح جذورها وتبين طريق الخلاص منها. وهذا هو صلب الرسالة الكفاحية للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية ومصدر الخطر الأول والأكبر عليهم، والذي عادةً ما تنتج عنه باقي الأخطار. فطلاب العلوم الاجتماعية ينتظرون من المشتغلين بالعلم الاجتماعي إجابات صريحة لا لف أو دوران فيها، فلا يكونوا منافقين، أو مرتعشين، أو مداهنين، أو مراوغين.

وهؤلاء الطلاب ينقسمون للتبسيط إلى نوعين. نوع جاد اختار أحد العلوم الاجتماعية عن رغبة وإرادة، ويملك نهما للمعرفة ويشكل مشروعا لمثقفين جدد. هؤلاء هم اختبار الشرعية الأكبر للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية. فهم طلاب حقيقيون. مناقشون ومجادلون لا ينفع معهم غير الصدق العلمي والوضوح الفكري. لا يحبون إلا الأستاذ القوي الذي يُعْلِي واجبات العلم فوق حسابات السياسة. صحيح أنهم أقلية لكنها أقلية مؤثرة لا يستطيع أي مشتغل بالعلم الاجتماعي أن يتجاهلها. هي أقلية واعية ومهتمة وحريصة، جاءت لتتعلم وتتكلم، ولتفهم سبب تعثّر مجتمعاتها. لا يكفيها شرح بارد للنظريات، وكأنه غاية العلم الاجتماعي، وإنما تنتظر من القائمين على تدريسه أن يبينوا لهم كيف تعمل تلك النظريات في واقع تعيس، فتتحداه لتصلحه وتستبدله. إنها فئة متميزة من الطلاب تتوقع من المشتغلين بالعلم الاجتماعي المكاشفة التامة، وتتأفف منهم إن رأتهم يحولون قاعات الدرس إلى توابيت للمحفوظات السكونية. مثل هذه الفئة الطلابية النابهة لا تكل عن الكلام فيما بينها عن أساتذتها مكونة صورا عنهم عند باقي الطلاب، بل وحتى لدى المجتمع العلمي وربما المجتمع كله. ولهذا فليس من خطر أعظم على المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من انصراف تلك الفئة المهمة من الطلاب عنهم؛ لأنها لو فعلت فسيخسرون سند شرعيتهم. وأستاذ بلا شرعية أستاذ بلا قيمة. لو سقط في عين قاعدته الشعبية (الطلاب) فلن يزيد عن “نفر” أكاديمي لا معنى لوجوده.

أما النوع الآخر من الطلاب.. فيضم كتلة أوسع ممن وجدوا أنفسهم لسبب أو لآخر في رحاب إحدى كليات العلوم الاجتماعية. هذه الكتلة معنية فقط بالنجاح ونيل شهادة جامعية عليا. لكن برغم ما يبدو من سطحيتها، إلا أنها تبقى مهمة للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية؛ لأنها وإن كانت لاهية إلا أنها ليست غافلة تماما عما يجري من حولها سواء في الوطن أو العالم، وبالتالي فإنها مثل كل الطلاب تملك انطباعات عن الأساتذة الذين تتفاعل معهم. قد لا تكون هذه المجموعة حريصة على المعرفة العميقة، وقد تتجنب بكل السبل إثارة النقاش مع أساتذتها تفاديا لاستعدائهم، لكنها تتكلم عنهم وربما تسخر منهم أكثر من طلاب المجموعة الأولى مهاجمين إما ضعف تكوينهم العلمي أو هشاشتهم المعرفية أو ارتعاشهم أمام الإدارة والتعليمات.

هؤلاء الطلاب معا (النابهون واللاهون) يتحولون إلى أعظم خطر يمكن أن يقابله المشتغلون بالعلوم الاجتماعية إن فشلوا في نيل احترامهم وكسب ثقتهم. ولن يستطيع المشتغل بالعلم الاجتماعي تجاوز اختبار الشرعية أمام طلابه إلا عندما يقدم لهم الحقيقة بلا خوف، بالطبع دون تحامل أو تحريض أو تعبئة؛ لأن ذلك ليس أبدا من صفات المشتغل بالعلم. ولكي يتفادى المشتغل بالعلم الاجتماعي هذا الخطر فعليه أن يتكلم عن هموم الوطن ومشكلاته بما يرضي الحقيقة؛ حتى وإن خالف خطابه العلمي الخطاب الرسمي السائد.. وذلك هو جوهر الرسالة الكفاحية للعلوم الاجتماعية.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock