رؤى

العراق وسوريا.. واحتمالات الانسحاب العسكري الأمريكي

مع اقتراب انتهاء ولاية جو بايدن، وبداية ولاية الرئيس الجديد، دونالد ترامب، تبرز تساؤلات مُلِحَّة حول مستقبل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بالوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا. إذ  تتسم سياسة ترامب الخارجية بنهج تقليص التدخل العسكري الأمريكي في الخارج.

وبالتالي، فإن احتمالات الانسحاب العسكري الأمريكي من هذين البلدين- قد تعود إلى الواجهة مرة أخرى، لتعيد النقاش حول التوازن بين الأمن القومي الأمريكي، واستراتيجية الابتعاد عن الحروب التي لا تنتهي.

خلال فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021)، كان من الواضح أن أحد أهداف سياسته الخارجية هو تقليل الوجود العسكري الأمريكي، في المناطق التي اعتبرها “حروب لا طائل منها”، وخاصة في الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك، ظل ترامب يحتفظ بوجود محدود للقوات الأمريكية في سوريا والعراق، وإن كان تحت شعار “مكافحة الإرهاب” وحماية المصالح النفطية في سوريا.

في العراق، اتخذت إدارة ترامب خطوات ملموسة لتقليص حجم القوات الأمريكية؛ ففي عام 2020، سُحِبَ جزء من القوات؛ إلا أن التوترات مع الميليشيات الموالية لإيران، والهجمات المتكررة على القواعد الأمريكية، دفعت الإدارة إلى الإبقاء على تواجد عسكري لضمان حماية المصالح الأمريكية.

في سوريا سحب ترامب معظم القوات الأمريكية من شمال شرق البلاد، في خطوة أثارت جدلا واسعا؛ لكن بعض القوات بقيت لحماية آبار النفط من الوقوع في أيدي تنظيم “داعش”، أو القوات السورية الحكومية.

مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يمكن الافتراض أن نهج “أمريكا أولا” الذي يركّز على تقليص الالتزامات العسكرية الخارجية، سيظل جزءا رئيسا من سياسته. لكن يجب أن نلاحظ أن الانسحاب العسكري من العراق وسوريا ليس قرارا أحاديا بسيطا؛ بل يعتمد على عوامل متعددة تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية، السياسية، والاقتصادية.

– الاعتبارات الجيوسياسية والإقليمية؛ فالوجود العسكري الأمريكي، في العراق وسوريا، ليس مجرد مسألة أمن داخلي لتلك الدول، بل هو جزء من لعبة جيوسياسية أوسع. في العراق، يمثل النفوذ الإيراني تهديدا رئيسا للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة؛ ومن ثم فإن وجود القوات الأمريكية يساعد في تقليل النفوذ الإيراني، ويُعتبر توازنا ضروريا في إطار الصراع الإقليمي بين الولايات المتحدة وإيران.

أما في سوريا، فإن الوجود العسكري الأمريكي يُشكّل عقبة أمام تحقيق روسيا وإيران لانتصار كامل هناك؛ حيث تسيطر القوات الأمريكية على مناطق ذات أهمية استراتيجية، مثل الحقول النفطية، وهذا يحرم كليهما، روسيا وإيران، من موارد اقتصادية حيوية. علاوة على ذلك، يُعتبر الوجود الأمريكي ورقة ضغط سياسية على طاولة المفاوضات الدولية بشأن مستقبل سوريا.

فإذا قرر ترامب الانسحاب؛ قد يؤدي ذلك إلى زيادة النفوذ الإيراني والروسي في كل من العراق وسوريا، وهو ما قد لا يكون في مصلحة واشنطن وحلفائها في المنطقة، خاصة إسرائيل وبعض الدول العربية.

– مشكلة الضغوط السياسية الداخلية؛ إذ على الصعيد الداخلي، ستكون إدارة ترامب الثانية تحت ضغوط سياسية قوية من قاعدته الشعبية، التي تدعم تقليص التدخلات الخارجية، لكن سيكون هناك ضغط مماثل من الكونغرس والبنتاغون للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في الشرق الأوسط.

في حال شهدت المنطقة تصاعدا في نشاط التنظيمات الإرهابية، أو النفوذ الإيراني بعد الانسحاب، فإن ذلك قد يؤثر سلبا على سمعة ترامب وسياسته الخارجية.

– مسألة الاقتصاد وتكاليف الحروب؛ واحدة من أهم الحجج التي استخدمها ترامب، خلال حملته الانتخابية للعودة إلى البيت الأبيض، هي تقليل التكاليف المالية الضخمة المرتبطة بالتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج. تكلفة الوجود العسكري في العراق وسوريا كانت دائما مثار جدل، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة.

ومع ذلك، فإن القرار بالتخلي عن الوجود العسكري قد يتطلب موازنة دقيقة بين توفير التكاليف والحفاظ على المصالح القومية؛ وهي مسألة تحتاج إلى جرأة في اتخاذ القرار المناسب تجاهها.

– موقف الحلفاء والشركاء المحليين؛ في العراق، تعتمد الحكومة العراقية بشكل كبير على الدعم العسكري الأمريكي في تدريب وتجهيز قواتها الأمنية، فضلا عن المساعدة في عمليات مكافحة الإرهاب. قد يؤدي انسحاب القوات الأمريكية إلى إضعاف قدرة العراق على مواجهة الميليشيات الموالية لإيران، أو على الأقل تحييد تأثيرها على القرار السياسي، ما قد يُضعف من استقرار البلاد.

أما في سوريا.. فإن الشركاء المحليين -لا سيما قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد- يعتمدون على الحماية الأمريكية. وفي حال انسحاب القوات الأمريكية، قد يُترك هؤلاء الشركاء في مواجهة مباشرة مع تركيا، التي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية منظمة إرهابية.

– إرث سياسة ترامب الخارجية؛ في حال قرر ترامب تنفيذ انسحاب شامل من العراق وسوريا، سيكون هذا جزءا من إرثه في السياسة الخارجية، كونه الرئيس الذي يفي بوعده في إنهاء “الحروب التي لا نهاية لها”. ولكن في المقابل، قد يكون لهذا الإرث تداعيات سلبية، إذا ما أدت هذه الخطوة إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة أو ظهور تهديدات جديدة للمصالح الأمريكية.

بالنظر إلى تلك العوامل السابقة، يمكن تصوُّر عدد من السيناريوهات المتعلقة بالانسحاب الأمريكي:

– انسحاب جزئي تدريجي؛ إذ قد يقرر ترامب تقليص عدد القوات الأمريكية، مع الاحتفاظ بوجود رمزي لتقديم الدعم الاستشاري والتدريبي للحلفاء المحليين، ومراقبة الوضع الأمني عن بعد. هذا السيناريو سيحافظ على بعض التوازن بين المصالح الأمنية والسياسية الأمريكية.

– اسحاب عسكري كامل؛ يمكن لترامب اتخاذ قرار بالانسحاب الكامل من البلدين، تاركا الحلفاء المحليين للتعامل مع التحديات الأمنية بأنفسهم. سيكون لهذا السيناريو تداعيات خطيرة على الاستقرار الإقليمي.

– بقاء عسكري مؤقت؛ قد يلجأ ترامب إلى الإبقاء على القوات الأمريكية في المدى القصير، مع وضع خطة انسحاب تدريجية بناء على التطورات الأمنية والسياسية، في كل من سوريا والعراق.

في هذا الإطار.. فإن احتمالات الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق وسوريا، في ظل رئاسة ترامب، تعتمد على توازن دقيق بين الاعتبارات الأمنية، السياسية، والاقتصادية. وعلى الرغم من التوجهات السابقة لترامب نحو تقليص الوجود العسكري الأمريكي بالخارج، إلا أن تعقيدات الوضع في سوريا والعراق تجعل الانسحاب الشامل خطوة محفوفة بالمخاطر، من المنظور الأمريكي.

ومن ثم، سيكون على ترامب وفريقه إعادة تقييم الأوضاع على الأرض واتخاذ قرارات مبنية على مزيج من الواقعية والاعتبارات الاستراتيجية، بما يتوافق مع رؤيته للحلفاء في المنطقة العربية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock