يُعتبر الصدام التركي الكردي في سوريا -بعد رحيل نظام بشار الأسد- أحد السيناريوهات المتوقعة، التي قد تنشأ نتيجة التطورات الجيوسياسية في المنطقة، التي تضم الدول الأربع سوريا والعراق وتركيا وإيران. فالأكراد في شمال سوريا يسعون منذ سنوات لإقامة كيان مستقل أو شبه مستقل، يتمتع بقدر من الحكم الذاتي، في الوقت الذي تنظر فيه تركيا بقلق متزايد إلى هذه التحركات على حدودها الجنوبية، معتبرة أن أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل في سوريا يمثل تهديدا لأمنها القومي، لا سيما في ظل ارتباط بعض المجموعات الكردية في سوريا بحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيا لدى أنقرة.
في هذا الإطار، تتصاعد احتمالات حدوث صدام بين تركيا والقوى الكردية في مرحلة ما بعد الأسد؛ بما يُثير العديد التساؤلات الخاصة بمؤشرات هذا الصدام، ودوافع أنقرة؛ هذا، فضلا عن التحديات والخيارات المتاحة بالنسبة إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
مؤشرات الصدام
مع الوجود الكردي المسلح في شمال سوريا، تتعدد مؤشرات الصدام التركي الكردي، وذلك استنادا إلى عوامل متعددة.. من بينها:
1- الوجود الكردي في الشمال السوري؛ ففي خلال سنوات الصراع في سوريا، استطاعت القوات الكردية، وخاصة وحدات “حماية الشعب” (YPG)، تعزيز وجودها في الشمال السوري، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش. ومع غياب سلطة النظام السوري في تلك المناطق، تمكّن الأكراد من إنشاء إدارة ذاتية شمال سوريا تحت اسم “روجافا”. وقد أسست المجموعة، في عام 2015، قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بناءً على حث الولايات المتحدة. ولم تعترف تركيا لا بالوحدات، ولا بالقوات، واعتبرتهما امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، بما يُشكل -في رؤيتها- تهديدا للأمن التركي.
2- التدخلات العسكرية التركية السابقة؛ سبق لتركيا أن نفذت عدة عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، مثل عملية “درع الفرات”، وعملية “غصن الزيتون”، وذلك بهدف إبعاد القوات الكردية عن حدودها ومنع تمددها. هذه العمليات تعد من أبرز المؤشرات على استعداد أنقرة لاستخدام القوة العسكرية، لمنع إقامة كيان كردي مستقل أو شبه مستقل. ومن ثم، فإن استمرار التدخلات العسكرية التركية في المستقبل، بعد رحيل نظام الأسد، يمكن أن يكون جزءًا من استراتيجية أنقرة لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في الشمال السوري بما يتناسب مع مصالحها.
3- التوتر المستمر بين أنقرة والأكراد؛ فالتوترات السياسية والميدانية بين القوات التركية والقوات الكردية السورية لم تتوقف، حيث تكررت الاشتباكات الحدودية، إضافة إلى تنفيذ تركيا ضربات جوية ضد أهداف كردية داخل سوريا. كما أن الوجود المستمر للقوات التركية في مناطق، مثل عفرين، يُعزز من احتمالات تصاعد الصدام في مرحلة ما بعد الأسد، حيث من المتوقع أن تحاول تركيا منع أي ترتيبات سياسية قد تسهم في تقوية الدور الكردي في الشمال السوري.
4- الدور الأمريكي في دعم الأكراد؛ رغم تراجع الدعم الأمريكي للقوات الكردية، مقارنة بفترات سابقة، إلا أن واشنطن ما تزال تقدم دعما عسكريا ولوجستيا لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي يشكّل الأكراد عمودها الفقري. هذا الدعم يُعزز من مكانة الأكراد ويجعلهم قوة فعالة في معادلة المستقبل السوري، وهو ما يزعج أنقرة التي ترى في ذلك تهديدا مباشرا لمصالحها.
دوافع أنقرة
تتعدد الدوافع التركية في الصدام مع الأكراد، سواء بتأثير العوامل الداخلية أو الخارجية لسياسات حكومة أنقرة.. كما يلي:
1- استهداف منع قيام دولة كردية؛ إذ تخشى تركيا من أن يؤدي قيام كيان كردي في شمال سوريا إلى تحفيز الأكراد داخل تركيا، للمطالبة بمزيد من الحقوق أو حتى السعي إلى الانفصال؛ لذا فإن منع قيام دولة كردية أو كيان مستقل في سورية، يمثل أولوية قصوى بالنسبة لأنقرة، التي ترى في وجود كيان كردي على حدودها الجنوبية تهديدا مباشرا لوحدة أراضيها.
2- تعزيز الدور الإقليمي التركي؛ تسعى تركيا إلى أن يكون لها دور ريادي، في إعادة تشكيل سوريا بعد رحيل نظام الأسد؛ حيث ترى أنقرة أن وجود كيان كردي قوي في سوريا، سيُقلل من نفوذها الإقليمي، ويحد من قدرتها على التأثير في مسار الحل السياسي في سورية؛ لذا فإن الصدام مع الأكراد قد يكون جزءًا من استراتيجية تركيا، لضمان دورها المستقبلي في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
3- تأثير السياسات الداخلية التركية؛ مسألة الصدام مع الأكراد ليست، فقط، قضية خارجية بالنسبة لتركيا، بل لها أبعاد داخلية تتعلق بالسياسات الداخلية. وفي ضوء التوترات المتزايدة مع حزب العمال الكردستاني، والضغوط السياسية الداخلية، “قد” ترى الحكومة التركية في الصدام مع الأكراد في سوريا، وسيلة لحشد الدعم الشعبي وتعزيز موقفها الداخلي.
وهكذا.. يُمثّل الصدام التركي الكردي في سوريا، بعد رحيل نظام الأسد، احتمالا قويا نظرا للتوترات المستمرة بين الطرفين، ودوافع أنقرة لمعارضة أي تمكين للأكراد في شمال سوريا. ورغم الجهود المبذولة لتجنب هذا السيناريو، إلا أن تعقيدات المشهد السياسي والميداني في سوريا تجعل حدوث الصدام واردا.
أضف إلى ذلك، الضغوط السياسية التركية؛ فمن المتوقع أن تحاول تركيا فرض ترتيبات سياسية في سوريا، الجديدة، تتضمن تهميش قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وإضعافها سياسيا. وقد تتعرض قسد للضغوط لقبول تسويات سياسية، تفرض عليها التنازل عن مكاسبها التي حققتها خلال السنوات الماضية. هذا الاحتمال المتوقع سيكون معقدًا، حيث ستحاول تركيا فرض سياسات تقصي الأكراد، وتمنعهم من تحقيق أي دور فاعل في المستقبل السوري.
ثم هناك، أيضا، التهديدات الأمنية والميدانية؛ فمن المحتمل أن تشهد مرحلة ما بعد الأسد تصاعدا في المواجهات العسكرية بين قسد والفصائل المدعومة من تركيا، خاصة إذا فشلت المسارات السياسية في تحقيق توازن يرضي الأطراف كافة. هذه المواجهات قد تؤدي إلى تقويض استقرار المناطق الكردية، وإضعاف القدرات العسكرية لقسد.