رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة مصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ” الوظيفية

في حديثنا السابق، حول إشكالية مصلح “دَابِرُ” الدلالية، وصلنا إلى أن هذا المصطلح القرءاني لا يُعبر فقط عن الجانب الوظيفي؛ ولكن المصطلح يؤشر أيضا إلى الجانب المادي العضوي؛ بما يعني أن مصطلح “دَابِرُ” يؤشر دلاليًا إلى كل من الجانبين الوظيفي والمادي كليهما.

فمن حيث إن الدابر هو “التابع للشيء وآخره من خلفه” كالولد للوالد؛ فإن مقولة “قطع الله دابره”، تؤشر إلى أن الله سبحانه وتعالى أذهب ذريته، فلم يخلفه أحد؛ بما يؤكد أن قطع الدابر هو الاستئصال، وهو الجانب المادي للمصطلح. فإذا كان هذا الاستئصال يأتي لهدف مُحدد، أي إن الهدف يتحقق عن طريق الاستئصال، أو “قطع الدابر”، تكون الإشارة إلى الجانب الوظيفي للمصطلح؛ بما يدل على أن مصطلح “دَابِرُ” في آيات التنزيل الحكيم، يأتي ليؤشر دلاليا على الجانبين معا.. المادي والوظيفي.

وهو ما يتبدى بوضوح، في قوله سبحانه وتعالى: “فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٭ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ” [الأنعام: 44-45].

فماذا عن المصطلحات الأخرى، التي تعود في الأصل إلى لفظ “دُبُر” في التنزيل الحكيم(؟).

مصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”

ورد كل من مصطلحي “ٱلۡأَدۡبَارَ” و”ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، بهذين الشكلين المختلفين، رسمًا قرءانيًا، في آيات التنزيل الحكيم. ويعود كل منهما إلى الأصل اللساني “دُبُر”، الذي هو “آخر الشيء وتابعه من خَلْفُه”، والذي ورد هو ومشتقاته في القرءان الكريم 36 مرة. وكما هو واضح فإنهما يأتيان في صيغة الجمع؛ في الأول “ٱلۡأَدۡبَارَ”، وردت الكلمة ممدودة الباء بالألف؛ كما وردت أيضا في الثاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، بسكون الدال ومدت الباء بالمدة فوقها للجمع دون ألف. وهو ما يعني الاختلاف الدلالي بين ورود المصطلح مع تثبيت حرف الألف، عن وروده دون هذا التثبيت.

ونؤكد هنا على أهمية ما ذكره المفكر السوري رضوان دوابي، في كتابه “الحقائق الكونية: الساعة والسبع المثاني والقرءان العظيم”، في ما يتعلق بهذين المصطلحين “ٱلۡأَدۡبَارَ” و”ٱلۡأَدۡبَٰرَ”؛ إلا في ما يخص لفظ “دَابِرُ”، حيث إننا نختلف معه في أن اللفظ، كـ”مصطلح قرءاني”، لا يُعبر فقط عن الجانب الوظيفي فقط، أو كما يُطلق عليه دوابي “المنحى الوظيفي”؛ ولكن المصطلح يؤشر في الوقت نفسه، إلى الجانب المادي العضوي؛ بما يعني أن مصطلح “دَابِرُ” يؤشر دلاليًا، إلى كل من الجانبين الوظيفي والمادي كليهما.

وعن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، الذي ورد في ثمانية مواضع؛ فهو يأتي في آيات التنزيل الحكيم رسما قرءانيا، بدون تثبيت حرف الألف، للدلالة على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ ٱلۡغُرُوبِ ٭ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ” [ق: 39-40]؛ وأيضًا، كما في قوله تعالى: “لَئِنۡ أُخۡرِجُواْ لَا يَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمۡ وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ” [الحشر: 12].

وظيفية “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”

والمُلاحظ، أن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، يأتي في الآيتين الكريمتين، للدلالة على الجانب الوظيفي. ففي الآية الأولى [ق: 40]، لنا أن نلاحظ أن التسبيح “وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ”، يأتي في أعقاب السجود “وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ”. أما في الآية الثانية [الحشر: 12]، لنا أن نتأمل كيف أن “ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ” قد وعدوا “ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ”، على مناصرتهم؛ إلا أنهم أخلفوا ما وعدوا به؛ ولأن “ٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ”، لذلك حتى “وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ”؛ بما يؤكد على أن “لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ” تؤشر إلى الجانب الوظيفي للمصطلح.

ولعل هذا ما يتبدى من خلال السياق القرءاني، في قوله عزَّ وجل: “أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخۡوَٰنِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَئِنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمۡ أَحَدًا أَبَدٗا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ٭ لَئِنۡ أُخۡرِجُواْ لَا يَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمۡ وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ” [الحشر: 11-12].

وهو ما يتبدى أيضا في قوله سبحانه: “وَلَوۡ قَٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا” [الفتح: 22]؛ وفي قوله تعالى: “وَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعۡيُنِنَاۖ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ٭ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَٰرَ ٱلنُّجُومِ” [الطور: 48-49].

وهنا، لنا أن نُلاحظ أن “لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، في الآية الأولى [الفتح: 22]، تؤشر إلى الجانب المعنوي الوظيفي، لمصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، وهو ما يتأكد عبر خاتمة الآية “ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا”.

أما في الآية الثانية [الطور: 49]، لنا أن نتأمل قوله تعالى هنا “وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَإِدۡبَٰرَ ٱلنُّجُومِ”، الذي يأتي تأكيدًا، وتكاملًا، مع قوله سبحانه “وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡهُ وَأَدۡبَٰرَ ٱلسُّجُودِ” [ق: 40]، من حيث إن “ٱلسُّجُودِ” جمع ساجد؛ وإن لـ”ٱلنُّجُومِ” سجود، كما في قوله عزَّ من قائل: “ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٖ ٭ وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ” [الرحمن: 5-6]. ومن ثم، فالظاهر أن المُراد من “إدبار النجوم”، هو وقت الإصباح حيث يُدبِر النجم ويختفي، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس.

كذلك، يتبدى أن المصطلح القرءاني “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، يؤشر إلى الجانب الوظيفي للمصطلح، من خلال قوله سبحانه وتعالى: “وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا” [الإسراء: 46].. وعبر قوله تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ” [محمد: 25].

وهنا، لنا أن نُلاحظ أن “وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا”، في الآية الأولى [الإسراء: 46]، تؤشر إلى أن نفوسهم قد نفرت من ذكر “رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ”، فرجعوا إلى ما كانوا عليه “وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ”، من رفض الإيمان “نُفُورٗا”؛ بما يؤكد على الجانب الوظيفي لمصطلح “أَدۡبَٰرِهِمۡ”. ولعل هذا المعنى ما يتأكد أيضا، في الآية الثانية [محمد: 25]؛ إذ، إن “ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم” يؤشر إلى العودة إلى ما كانوا عليه من وجهة رافضة للإيمان كافرة، بعدما تبين لهم هدى الله سبحانه وتعالى؛ ولنا، كذلك، أن نُلاحظ خاتمة الآية الكريمة تؤكد على الجانب الوظيفي للمصطلح، من حيث إن “ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ”.

ثم، يتأكد الجانب الوظيفي للمصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، إضافة إلى ما سبق، في قوله سبحانه وتعالى: “فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٞ وَٱمۡضُواْ حَيۡثُ تُؤۡمَرُونَ” [الحجر: 65]؛ حيث نُلاحظ أن “وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَٰرَهُمۡ” تأتي كوظيفة تتبع، تؤشر إلى عدم الالتفات إلى الوراء.

هذا عن مصطلح “ٱلۡأَدۡبَٰرَ”، الذي يأتي دون تثبيت حرف الألف؛ فماذا عن مصطلح “ٱلۡأَدۡبَارَ” الذي يرد في التنزيل الحكيم مع تثبيت حرف الألف؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock