ثقافة

ذاكرة المرايا: ما يحدثه الألم في الروح أروع مما تفعله السعادة!

ما بين الحياة والموت مسافة نتلصص عليها، لكنها هي الأخرى محكمة الغلق، لا تتنفس في وجوهنا كي نرى من حياتها أثرا، أو يتناثر من أثرها غبار نتبع أثره فنهتدي. إنها مناطق نفوذ الموت الواسعة التي تشمل أعمق ذرات الكون في خباياها، وأعتى وجوه الوجود في جبروتها. إنه الموت أو شيء يشبهه.

هذا ما يأتي على لسان داليا بطلة وراوية رواية “ذاكرة المرايا” للكاتبة منى الجبالي، الصادرة حديثا عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، وتهديها إلى أولئك المساكين الذين لم يسيئوا للحياة حين أساءت، ولم يتهموها حين أخطأت، يوم ارتكبت الجرم في حقهم، فبددت نورهم وأحرقت حصادهم، وفيها ترسم الجبالي صورة للإنسان الذي تكالبت عليه هزائم حياته، دون أن يكون سببا فيها، شاهدة على شح الانتصارات التي تزوره كبرق خاطف في جو السماء، مثلما تصور حالة ومشاعر شخصية تتأرجح بين ماضيها الذي أثقل كاهلها بما فيه من أزمات وشدائد، وبين حاضر جديد لم تتبين ملامحه بعد: كيف يمكنني أن أترك فراشي لأبدأ يوما جديدا، بينما الأمس ما زال يسكن معي؟

هنا يطالع القارئ سيرةَ شخصيةٍ تعيش مأزومةً، شاعرةً وكأن كل شيء يتربص بها، كل شيء يريد لها أن تفشل، وهي فقط لا تفعل شيئا سوى أن تسأل نفسها في كل مرة يلحق بها الفشل: لمَ لمْ أنجح؟

إننا هنا أمام شخصية تجلد ذاتها أكثر مما ينبغي، رغم تسامحها الشديد مع الآخرين، شاكيةً من عزلتها، من ظلمة حياتها، متسائلةً عن كينوتها: من أنا؟ وأين أكون؟ وهكذا تبدو وهي تدور في فلك الصراع مع الزمن.

هنا تستنكر الرواية سطوة الرجل على الحياة، رافضة أن يفرض وجهة نظره على العالم، مقررا امتلاك زمام الأمور في كل شيء، منتقدةً تعاليه ونفوذه المستتر، ونظرته إلى المرأة وكأنها متاعٌ وزينةٌ فقط، كما تناقش وضع المرأة في المجتمع الذي تضطر فيه إلى الاستسلام إلى طبيعة الحياة المفروضة عليها كما هي، رغم تعرُّضها للعديد من الإهانات، كما تشير إلى فقدان المجتمع لهويته ونسيانه لماضيه: نعيش ونتعايش، نتغير ونترك، نظل نتنازل حتى نتحول في النهاية إلى كتل جليد تحمل في جوفها براكين.

مقياس داخلي

“ذاكرة المرايا” تلعب المرايا فيها دور بطولةٍ، تحاول أن “تُوقْعِن” الخيال، وأن “تُخيّلن” الواقع وتشير إلى أن هناك مغيبين كثيرين، يرتكبون جرائم شنيعة دون أن يشعروا بأنهم فعلوا شيئا، تدعونا إلى أن نظل دوما مؤمنين بالجمال؛ رغم أن بعضهم يعتبره نوعا من الرفاهية، تقول لنا إن كل شخص لديه مقياس داخلي مختلف لكل شيء حوله، وقد خلق ذلك الاختلاف نسبية الأمر، وجعل كل المقاييس وجهات نظر ليس أكثر، كما تشهد أحداث الرواية صراعات متعددة ما بين الجسد والروح، الألم والأمل، الحاضر والماضي، الأنا والآخر، الخير والشر، البقاء والرحيل، متسائلة: كيف أصبح العالم بخيلا هكذا في كل شيء، إلا في أعداد المساكين؟

الرواية التي تحكي قصة داليا، التي نشأت في قرية صغيرة وفقيرة، لأسرة فقيرة كبيرة العدد، ترفض نظرة الدونية تجاه المرأة وتفضيل الرجل عليها فقط لأنه ذكر، ساخطةً بشدة على ما يفعله الفقراء من كثرة الإنجاب، مشيرةً إلى أن الغيرة هي الشعور الأكثر عدائية بين البشر، وأن الحب يولد لعميان سرعان ما يرحل حينما يبصرون، منتقدةً ما يغرسه الكبار – في نفوس الصغار- من قناعاتٍ خاطئةٍ تنمو داخلهم؛ حتَّى تتحول إلى أخطاء راسخة، مثلما تحارب مشاعر القسوة التي يمارسها البشر بعضهم على بعض، والأذى المجاني الذي يوزعونه على الآخرين، وفيها نجد أنفسنا أمام تأمُّل للحياة بحثا عن طريقة لفهم فلسفتها وتفاصيلها للوصول إلى طريقة مناسبة للعيش دون خسائر أو انهزامات: غريب ما تفعله بنا المحن! عجيب ما تغيِّره فينا الأزمات! فما يُحدِثه الألم في الروح أروع مما تفعله السعادة!

عالم المرايا

ذاكرة المرايا.. التي تبحث فيها داليا عن ذاتها، وتغوص بنا في أعماق المجتمع الأسري؛ لتكشف أمراضه التي استشرت فيه، أملا في أن تجد من يعالجها ذات يوم، تقول إننا نستنسخ الأخطاء التي صنعتنا بلا شعور، ونحن نظن أنها شيء مختلف، وإن الخوف هو أقوى محرك للبشر، ليس الحب وليس الأمل كما نعتقد، لا شيء يدفعنا في طريق كما يفعل الخوف، وما أسوأ أن يترك الشخص وراءه ميراثا ملعونا! وإن الماضي لا يُعيده أحد أبدا، وإن الأمل في المستقبل، وإن التسامح مهم لأن تواصل الحياة سيرها ومسيرتها. كذلك تقول إننا -أحيانا- نرى أنفسنا على غير ما هي عليه، على هيئة أخرى لا تشبه حقيقتنا، كمن يرى في المرآة صورة أخرى لا تشبه صورته الأصل، بل تختلف عنها، وما أبعد الصورة المرئية عن الأصل الذي يظل دائما كاتما أسراره، دون أن يبوح بحقيقته التي يخفيها عن الآخرين، أيضا تلفت النظر إلى حالة التشظي والحيرة التي تتلبس كثيرين، مُسيطرةً على حيواتهم، موجهةً إياهم إلى مفترق طرق لا تعد ولا تحصى، وتنشغل كذلك بمحاولة الإجابة عن سؤال ماذا بعد الموت؟ أين يذهب الموتى؟ وماذا يفعلون هناك؟ مشيرةً إلى أن بعضنا يعيش في مساحة “زمكانية” ما بين الحياة والموت، فلا هو بميت ولا هو بحي تماما، فيما يظل بعضنا عالقا بين عالمين مختلفين، دون أن يستطيع اتخاذ قرار باختيار أحدهما للعيش فيه دون الآخر، مثلما تريد أن تقول إن الجسد هو سجن الروح التي تريد أن تتحرر منه ذاهبة إلى عالم المرايا التي تُحتجز فيه الأرواح استعدادا للذهاب إلى عالم آخر، وليس هناك شيء حقيقي تماما في هذه الحياة، فنحن سجناء ما نشعر به، ونحن أحرار أيضا بقدر ما نهيم في سماء الخيال.

بقى أن أقول إن النص، أيًّا كان جنسه الأدبي، يفقد قيمته، أو يبدو بدونها، إن لم يكتسب احترام القارئ، وإن لم يقنعه بأنه قد خرج منه إما بمتعة ما، أو بزاد معرفي، أو برؤية جديدة لبعض مفردات الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock