رؤى

الحوار الإلهي.. وفلسفة السجود لآدم عليه السلام

الحوار في القرءان الكريم يُعدّ أحد الأدوات البلاغية الهامة التي تستخدم للتعبير عن الحقائق والأحداث؛ ويتنوع هذا الحوار بين الحوار الإلهي، وحوار الأنبياء مع أقوامهم، وحوار البشر مع بعضهم البعض. في هذا الإطار، يلعب الحوار في القرءان دورا مركزيا في توصيل الرسائل الإلهية وتوضيح المقاصد والدروس للبشرية.

يتبدى ذلك إذا لاحظنا أن الحوار في التنزيل الحكيم ليس مجرد وسيلة للتواصل بين الأطراف، بل هو أداة قرءانية “تعليمية” تهدف إلى إيضاح الحجج وإبراز الفرق بين مفهومي الحق والباطل، ودلالة كل منهما بالنسبة إلى الإنسان. ويتميز هذا الحوار بالإيجاز والإعجاز اللغوي، كما يحمل معاني عميقة تعكس الحكمة الإلهية، في كل ما يتعلق بالخلق والاستخلاف الإلهي للإنسان.

ومن ثم، فالحوار القرءاني يفتح أمام القارئ نافذة لفهم أعمق للمراد الإلهي، من خلال نماذج حية تتكرر في مختلف السور والآيات.

يعني هذا أن الحوار في القرءان له دور أساسي في تبسيط المعاني، وتقديم المعلومة بشكلٍ يمكن للعقل البشري أن يتفاعل معها ويفهمها بوضوح. عبر الحوار، يتمكن القرءان من توجيه الإنسان نحو التفكر والتدبر في الأمور الحياتية والوجودية، كما يعزز قيم الحوار  البنّاء القائم على تبادل الآراء واحترام الطرف الآخر.

حوار إبليس

ولعل المثال البالغ الدلالة على ذلك، هو الحوار الإلهي مع “إبليس” بخصوص مسألة السجود لآدم عليه السلام، بعد نفخة الروح فيه، وهو من أبرز الحوارات القرءانية، التي تحمل معاني عميقة، ليس فقط حول خلق آدم عليه السلام؛ ولكن أيضا حول الأمر الإلهي بالسجود لآدم. ويُعدّ هذا الحوار من أولى المواقف التي جسدت معركة الحق مع الباطل، كما أنه أظهر لنا أبعاد الصراع النفسي والفكري بين الخضوع لأمر الله والكبرياء والاستكبار والعصيان من جانب إبليس.

هذا الحوار، أظهرته آيات التنزيل الحكيم في خطوات متتالية:

أولا.. لقد بدأ الحوار في التنزيل الحكيم، بين الله سبحانه وتعالى وبين الملائكة، حول خلق البشر، بإعلان الله سبحانه وتعالى للملائكة عن قراره بخلق الإنسان؛ ثم وجعله آدم عليه السلام -بعد نفخة الروح فيه- خليفة في الأرض. حول خلق البشر جاء قوله سبحانه: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ” [ص: 71].. وحول جعل آدم خليفة في الأرض، جاء قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].

هذا الإعلان عن جعل آدم “فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ”، كان بداية حوار مهم بين الله والملائكة، والملائكة هنا تسأل عن الحكمة من هذا الجعل، خاصةً بعد أن عرفوا أن بعض هؤلاء البشر سيأتي بالفساد. رد الله كان بسيطا وعميقا في الوقت نفسه، موضحا أن معرفته وحكمته تتجاوز إدراكهم.

ثانيا.. الأمر الإلهي بالسجود لآدم؛ إذ بعد أن أعلن الله تبارك وتعالى عن جعله آدم “فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ”، أمر سبحانه الملائكة بالسجود له، وهذا كان بداية الحوار مع إبليس الذي رفض الامتثال لأمر الله تعالى، كما في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ” [البقرة: 34]. في هذا الموقف، نرى رفض إبليس السجود لآدم؛ وهذا الرفض والعصيان للأمر الإلهي، جاء نتيجة أن إبليس “ٱسۡتَكۡبَرَ” حيث اعتبر نفسه أفضل من آدم.

وهنا، أظهر إبليس تكبره لأنه مخلوق من نار، وعدم قبوله لفكرة أن يُفضَّل مخلوق “طيني” عليه. ولعل هذا ما يتبدى بوضوح، في أكثر من موضع في آيات التنزيل الحكيم:

في قوله عزَّ من قائل: “وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٭ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ” [الأعراف: 11-12].. أيضا في قوله عزَّ وجل: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا” [الإسراء: 61].

ولنا أن نُلاحظ الإصرار الإبليسي على الاستكبار، وتخيله بأن النار خير من الطين، كما في قوله سبحانه وتعالى: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٭ قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٭ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ” [ص: 71-76].

فلسفة السجود

وهنا لنا أن نُلاحظ أن استثناء إبليس ليس فقط لأنه “لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ” [الأعراف: 11]؛ ولكن كذلك لأنه لم يكن من الملائكة، كما يؤكد هذا قوله سبحانه: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ” [الكهف: 50]. وفي هذا إخراج لإبليس من “جنس الملائكية”، وتقرير أنه من الجن. ولأن الجن، كالإنس، مخلوق على الاختيار، أي يمكنه أن يُطيع أو أن يعصي؛ فقد اختار إبليس في هذا الموقف، بناءً على استكباره، أن يعصي الأمر الإلهي.. ولذلك، قال عنه تبارك وتعالى: “فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ”.

ثم لنا أن نُلاحظ كذلك، الأمر بالسجود لآدم عليه السلام.. وبصرف النظر عن الاختلاف بين المفسرين، القدامى منهم والمحدثين، حول معنى السجود لآدم، فإنا نرى أن هذا السجود قد أراده الله سبحانه كـ”طاعة” لأمره تعالى أولا؛ وثانيا، تأكيدا على أنه سبحانه قد سَخَّرَ كل ما في الكون ليكون في خدمة “الإنسان- الخليفة”، لإنجاز المهمة التي أوكلها إليه رب العالمين، مهمة إعمار الأرض. ومن ثم، فقد سجد الملائكة لآدم، ليس خضوعا منهم لآدم، ولكن طاعة للأمر الإلهي بالسجود.. وامتثالا لعملهم مع آدم وذريته.

ومن هنا، يمكن أن نتفهم لماذا ورد مصطلح “أَجۡمَعُونَ”، ولم يرد “جميعا”، في قوله سبحانه: “فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ”؛ إذ لم يسجد الملائكة كلهم، بما فيهم “ٱلۡعَالِينَ”.. ولكن سجد من الملائكة الموكلون بالأرض وخدمة الإنسان؛ بمعنى أن أمر السجود قد صدر لمن لهم “عمل” مع آدم وذريته، والذين يقول فيهم عزَّ وجل: “لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ…” [الرعد: 11]. أما “ٱلۡعَالِينَ”، الذين لم يشهدوا الأمر الإلهي بالسجود لآدم، فليس لهم عمل مع آدم وذريته.

ومن هنا، ندرك دلالة قوله سبحانه: “قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ” [ص: 75].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock