خلال العام الفائت، 2024، وسّع بنك الشعب الصيني (البنك المركزي)، احتياطياته من الذهب بـ”44.17″ طن، ما ساهم في رفع الوزن الإجمالي لدى البلاد إلى مستوى قياسي بلغ “2279.57” طن. فماذا يعني شراء الصين للذهب؟، ولماذا تسعى الصين إلى تعزيز احتياطياتها الذهبية؟، وما التأثيرات المحتملة لهذه الخطوة على الاقتصاد الصيني، والأمريكي، وعلى المشهد الاقتصادي والجيوسياسي الدولي؟.. والأهم، ما التأثيرات على المنطقة العربية؟.
في السنوات الأخيرة، أصبح شراء الصين للذهب موضوعا يثير اهتماما متزايدا على المستوى العالمي، ليس فقط لأنه يعكس سياسة اقتصادية معينة تتبعها بكين؛ بل لأنه يحمل في طياته تداعيات جيوسياسية واقتصادية تمتد آثارها إلى الولايات المتحدة، والمنطقة العربية، والعالم بأسره.
أهمية الذهب
يعد الذهب أحد الأصول الأكثر قيمة واستقرارا في الأسواق المالية، حيث يعتبر ملاذا آمنا في ظل الأزمات الاقتصادية واضطرابات الأسواق. ولذلك، فإن اهتمام الصين بتملك كميات كبيرة من الذهب ليس أمرا عشوائيا، بل استراتيجية مدروسة ذات أبعاد اقتصادية وجيوسياسية.
ومنذ القدم، كان الذهب يعتبر مخزنا للقيمة ووسيلة لتأمين الثروة في أوقات الاضطرابات الاقتصادية والسياسية؛ لكن مع تطور النظام المالي العالمي، تقلصت الأهمية المباشرة للذهب كعملة، خاصةً بعد إلغاء معيار الذهب الذي كانت العملات مرتبطة به في منتصف القرن العشرين. إلا أن الذهب لم يفقد مكانته تماما، حيث احتفظت الدول الكبرى باحتياطيات ذهبية لضمان الاستقرار المالي، وللاستفادة منه كأداة لتعزيز الثقة في اقتصاداتها.
الصين، بوصفها واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم، تسعى منذ عقود إلى تنويع احتياطاتها بعيدا عن الدولار الأمريكي، والذي يُشكّل العملة الاحتياطية الرئيسة عالميا. كانت الاحتياطات الصينية في معظمها تعتمد على السندات الأمريكية، ولكن مع تغير التوجهات السياسية والاقتصادية، بدأت الصين تعزز من شراء الذهب كجزء من استراتيجيتها الاقتصادية.
يعني ذلك في – ما يعنيه- أن أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع الصين لشراء الذهب بكميات كبيرة هو رغبتها في تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، حيث يعتمد النظام المالي العالمي بشكل كبير على الدولار. وكما يبدو، مع تصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة على الساحة السياسية والاقتصادية، ترغب الصين في تعزيز موقعها المالي العالمي عن طريق تنويع احتياطاتها النقدية، بما في ذلك تعزيز احتياطيات الذهب؛ حيث يعتبر الذهب بديلًا قويًا للدولار لكونه يحتفظ بقيمته على المدى الطويل، ولا يتأثر بالتقلبات السياسية.
إضافة إلى ذلك، تسعى الصين إلى زيادة تأثير عملتها الوطنية، اليوان، على النظام المالي العالمي. يمكن لمراكمة الذهب أن تمنح الصين المزيد من القوة لدعم عملتها وتعزيز ثقة الأسواق العالمية بها. فإذا ما دعمت الصين عملتها باحتياطيات ذهبية قوية، فإن ذلك قد يشجع الدول الأخرى على استخدام اليوان في تعاملاتها التجارية بدلاً من الدولار، ما يقلل من الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي. هذا، فضلا عن أن امتلاك احتياطات ذهبية كبيرة يعزز من الثقة في الاقتصاد الصيني، وهو ما قد يعزز جهود الصين لجعل اليوان عملة احتياطية دولية في المستقبل.
تأثيرات اقتصادية
يعتبر شراء الصين للذهب جزءا من استراتيجيتها للتوجه نحو اقتصاد عالمي متعدد القطبية. ففي ظل الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، تسعى الصين إلى خلق توازن من خلال تعزيز موقفها الاقتصادي والجيوسياسي، والذهب يلعب دورا محوريا في هذا التوجه.
والواقع، أن تعزيز احتياطات الصين من الذهب يحمل آثارا متعددة على الاقتصاد الصيني. فمن جهة، يعزز الذهب استقرار الاحتياطات النقدية الصينية، ويقلل من تأثرها بالتقلبات الحادة في أسواق العملات العالمية. كما أن امتلاك احتياطات ذهبية كبيرة يمنح الصين مرونة أكبر في التعامل مع الأزمات الاقتصادية أو المالية التي قد تواجهها في المستقبل.
على المدى الطويل، يمكن أن يساعد الذهب الصين في تحقيق هدفها الطموح بأن يصبح اليوان عملة احتياطية دولية؛ فوجود احتياطيات قوية من الذهب يعزز الثقة الدولية في العملة الصينية، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الطلب على اليوان؛ ومن ثم، تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
من جهة أخرى، فإن زيادة احتياطات الصين من الذهب سيكون لها تداعيات مهمة على الاقتصاد الأمريكي. فالاعتماد المفرط على الدولار، كعملة احتياطية عالمية، يمنح الولايات المتحدة نفوذًا كبيرا في النظام المالي العالمي؛ ولكن إذا تمكنت الصين من تعزيز مكانة اليوان كعملة احتياطية، بفضل احتياطاتها الذهبية، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص دور الدولار في التجارة العالمية.
علاوة على ذلك، الصين من أكبر حاملي السندات الحكومية الأمريكية؛ فإذا قررت الصين تخفيض اعتمادها على هذه السندات في مقابل شراء المزيد من الذهب، فإن ذلك قد يؤدي إلى زيادة الفوائد على الديون الأمريكية، وهو ما قد يشكل ضغطًا على الاقتصاد الأمريكي.
من جهة ثالثة، فإن منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية الغنية بالموارد الطبيعية، قد تتأثر أيضا من سياسات الصين الاقتصادية، بما في ذلك زيادة احتياطات الذهب. من جانب، الصين هي واحدة من أكبر مستوردي النفط من المنطقة العربية؛ وبالتالي، فإن تعزيز استقرارها الاقتصادي من خلال الذهب قد يزيد من قدرتها على الحفاظ على مستويات الطلب المرتفعة على النفط. ومن جانب آخر، يمكن أن يؤدي تزايد دور الصين في الاقتصاد العالمي إلى تأثيرات جيوسياسية في المنطقة؛ فالصين تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية من خلال مبادرات مثل “الحزام والطريق”، والاحتياطات الذهبية القوية قد تمنح الصين مرونة أكبر في تقديم الاستثمارات والمشاريع في المنطقة.
النظام العالمي
من جهة أخيرة، يبدو أن شراء الصين للذهب لا يؤثر فقط على الصين وأمريكا، بل يمتد تأثيره ليشمل العالم بأسره. في ظل النظام المالي العالمي الحالي الذي يعتمد بشكل كبير على الدولار الأمريكي، فإن أي تغيير في توازن القوى الاقتصادية يمكن أن يكون له تداعيات واسعة النطاق.
إذا تمكنت الصين من تعزيز مكانتها الاقتصادية العالمية من خلال الذهب، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة تشكيل النظام المالي العالمي، وربما ظهور عملات احتياطية جديدة تنافس الدولار. كما أن زيادة الطلب على الذهب من قبل الصين قد تؤدي إلى ارتفاع أسعاره عالميا، وهو ما قد يؤثر على الاستثمارات وأسواق السلع الأساسية.
علاوة على ذلك، تزايد نفوذ الصين الاقتصادي قد يدفع الدول الأخرى إلى اتباع نفس النهج في تعزيز احتياطاتها من الذهب، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة التنافس على شراء الذهب من الأسواق العالمية؛ وبالتالي، ارتفاع أسعاره وزيادة تقلباتها.
في هذا الإطار.. يمكن القول بأن شراء الصين للذهب يمثل جزءا من استراتيجية أوسع، لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية عالمية. هذه السياسة تحمل في طياتها تداعيات على النظام المالي العالمي، قد تؤدي إلى إعادة تشكيل موازين القوى الاقتصادية والجيوسياسية.
وفي ظل تزايد التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وفي ظل التغيرات في النظام المالي العالمي، يبقى الذهب أحد الأصول الثمينة التي تعتمد عليها الدول الكبرى لتحقيق الاستقرار المالي وحماية ثرواتها. لذلك لا تكون مُصادفة أن تندلع وتستمر الحرب في السودان، الذي يمتلك من الذهب ما يجعله هدفا استراتيجيا.