قتل العبد الصالح، رفيق موسى -عليه السلام- في رحلة العلم المجهول، طفلا صغيرا، ليحمل أبواه في أعماق نفسيهما حزنا لا يُنسى.. حزنا طويلا سيختزناه العمر كله، فيُحدث فيهما من الأثر العميق ما يُحدث؛ ليغتنيا بما فقداه!
نعم.. سيغتنيا، وسيكملان حياتهما معا، يجمعهما هذا الحزن المخزون، في اتجاه مستقبل ينتظرهما فيه ولد صالح رحيم، لكنهما لن يعرفا شيئا عن الطفل المقتول، إلا أنه قُتل ومات!
وما ذاق طعم الحزن من لم يمت له ولد، والأصعب أنه مات مقتولا. لكننا علِمنا – من النص القرآني- أن كل هذا حدث في إطار مفهومين من المفاهيم الكبرى التي ستتلامس مع القدر وهما الرحمة والعلم. وعلِمنا أيضا أن قدرة العقل الإنساني في فهم أقدار الحياة محدودة للغاية. وعلمنا أن صبره سيكون محل اختبار، لأن المعلومات المتوفرة لديه لا تكفي للإحاطة والفهم.
هكذا قال العبد الصالح لنبي القوة والعزم موسى -عليه السلام- الذي سيتفاجأ بما سيراه. فإذا كان الموضوع يتعلق بابن عاق، سيرهق أبواه، كان من الممكن أن يموت مريضا، بما يجعل حزنهما يتدرج من المرض إلى الموت، عبر كل المحطات التي تجعل النفس تتقبل الفقد والغياب؛ بل كان من الممكن ألا يُولد أصلا.. وهكذا ستنتهى الرحلة بقليل من العلم وكثير من التسليم.
عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- علّمنا كيف نتعامل مع ما لا نفهمه، بكل الوعى وكل التسليم.
كان ذلك في حادثة الإفك الشهيرة، لم يكثر من الكلام حول أي مقدمات من هنا وهناك، فقط سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالا واحدا يحسم كل الأقاويل: ” من زوَّجَكها يا رسول الله؟ قال: الله. قال: أفتظن أن ربك دلَّس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. فتنزَّل القرآن من لدن العزيز الحميد، بنفس ألفاظ سيدنا عمر، ببراءة أمنا الحبيبة السيدة عائشة رضي الله عنها.
هكذا يجب علينا أن ننظر إلى ما يحدث أمامنا، في غزة هذه الأيام من تقتيل وتدمير للبشر والشجر والحجر.
الحزن الذى يملأ نفوس أهل غزة ونفوسنا، ليس حزنا عاديا؛ لكنه لن يكون حزنا خبيثا. معاذ الله. لماذا؟ لأننا أولا، نعلم أن ما فعله الأبطال يوم 7 أكتوبر، كان يستند إلى جنب الله، من أوله إلى آخره، سواء في الاستجابة إليه سبحانه، برفض الذل والخوف، بكل أنواع الرفض الممكنة، أو في الاستجابة إليه سبحانه، بالإقدام
والمبادرة بالمتاح والمستطاع، من القدرة والقوة، استنادا إلى حقيقة الإيمان والتوكُّل كما في الآية الكريمة التي اتخذها الأبطال شعارا لهم “ادخلوا عليهم الباب…”.
ولأننا ثانيا، نعلم أنهم لم يكونوا طُلاّب دنيا. لم يطلبوا من الدنيا إلا ما يعرفوه عنها من الدين (العيش الكريم أو الموت الكريم) ليس هناك اختيارا ثالثا.. وهكذا تعلمت منهم ابتهال أبو السعد، فوقفت
وقفة الجبل الأشم في احتفال مايكروسوفت. فليس هناك اختيارا ثالثا.. أكون أو لا أكون.. وهكذا سيتعلم الشرق كله.
وقد أكرم الله نوايا الأبطال، فتمم لهم عملهم، بكل أنواع التأكيد على صدقهم، واتخذ منهم شهداء، ليكون محياهم ومماتهم آية وعبرة، يضع الله بها حدا فاصلا بين زمنين. سنعرف الأن، ونحن في أكثر الأوقات خطورة في تاريخنا المعاصر، أن كل ما يفعله الغرب في غزة، بواسطة دولة الاحتلال الاستيطاني العنصري، هو منع مجيء هذا الزمن الثاني.
لا تتخيلوا أبدا أن القصة تدور حول الأسرى والمقاومة.. أو إبادة وتهجير.. هذا كذب بواح. القصة كلها تدور حول كيفية دفن هذه الأفكار في سابع أرض، وتحديدا دفنها في غزة مع أصحابها الذين أبدعوها، فلا يكون لها ولا لهم قيام.
هذا توجه غربي أصيل وقديم، عاشه ومارسه الغرب طويلا، من يد بريطانيا، ليد أمريكا عاشه ومارسه، ولا يزال يعيشه ويمارسه، بكل عنفوان وطغيان يمارسه.
أؤكد لكم أن القصف والعدوان في الضفة ولبنان وسوريا، هو قرار غربي أولا وثانيا وعاشرا.. إنها أدوار في مسرحية الأكاذيب.
دولة الاحتلال الاستيطاني العنصري، لا تملك القدرة على مجرد
القول بتغيير وجه الشرق الأوسط. الشرق الأوسط مجال غربي بامتياز منذ الحروب الصليبية 1095م، وحتى غزو العراق 2003.
دولة الاحتلال الاستيطاني العنصري حدث عابر في تاريخ هذا الصراع، نشأت فقط مع تصاعد الأفكار القومية في أوروبا مع ثورات 1848، فيما عرف وقتها بربيع الأمم.. ومع الكراهية الأوروبية القديمة لليهود تكونت فكرة وطن قومي لليهود، خارج أوروبا؛ ليقوموا بدورهم الشهير في طول وعرض التاريخ الأوروبي (الدور الوظيفي).
ما يحدث الأن في غزة، يحفر عميقا في كل جراحات الأمة منذ الحروب الصليبية، والأزمة الكبرى التي يواجهها الغرب الآن، هو انهيار كل الأساطير والأكاذيب، التي بُني عليها هذا الصراع.
ليس هذا فقط، بل وميلاد أجيال جديدة، بأفكار جديدة تماما، بعيدة عن شعوذة هذه الأساطير، ولم يكن ينقصها للتعرف على كل الحقائق في أصلها الصحيح، إلا ما يرونه على الهواء مباشرة في غزة، لتتحرر تلك الأجيال من كل الأكاذيب التي حامت حول هذه الحقائق عبر السنين..
وللحرية الحمراء باب** بكل يد مدرّجة يدق
بيت أمير الشعراء الشهير، الذى أشتهر أكثر على لسان الحاج يحيى.. لكن عن أي حرية تتحدث يا حاج يحيى؟ وأنت بالكاد تريد تحرير الأسرى من سجون إسرائيل، ورفع الحصار في غزة؟ سنعرف ونعرف ونعرف.. أن الشهيد -على تاريخه وتاريخنا- كان يشير إلى حرية البشر على كوكب الأرض من أسوأ رقٍ واستعباد شهدته الإنسانية على أيدى الحضارة الغربية، والرجل الأبيض.
الرِّق الجديد الذى تحدّث كثير من عقلاء الغرب المستمسكين بمفهوم الإنسانية عنه. وحدثنا عنه كثيرا د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله، في كتابه الشهير (دفاع عن الإنسان).
الحزن في غزة.. وعلى غزة.. ليس كأي حزن.. هو حزن نبيل.. بين يدى صبر جميل.. صبر الرضى عن الله الكريم، الذى سيُعطى ويُرضى.. صبر اليقين بوعد الله الذي لا يخلف وعده.
هكذا كان حزن الأبوين الصالحين في رحلة العلم المجهول وموسى والعبد الصالح.. وهكذا كان حزن يعقوب -عليه السلام- بين يدى يوسف في رحلة الملك والمعرفة.
وهكذا هو في غزة وفينا وعلينا أن نحرس ورد الشهداء.. وعلينا أن نحيا، كما نحن نشاء.. بتعبير محمود درويش رحمه الله.