رؤى

طوفان الأقصى.. وانقسام “بيت العنكبوت”

في خطابه التاريخي، الذي ألقاه في صيف العام ٢٠٠٠، في أعقاب الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان، وصف قائد المقاومة اللبنانية، الشهيد السيد حسن نصر الله، دولة الاحتلال بأنها “أوهن من بيت العنكبوت”.

كان من بين الأسباب، التي دعت السيد الشهيد، لاستخدام هذا التشبيه، هو الوهن الداخلي، الذي تعاني منه دولة الاحتلال، رغم إبرازها لكافة مظاهر القوة العسكرية.

ولعل من أبرز أوجه هذا الوهن، والذي كشفت عنه معركة طوفان الأقصى، التي انطلقت منذ عام ونصف العام، هو الانقسام الحاد الذي يعاني منه المجتمع الصهيوني.

إذ لم يعد الانقسام قاصرا، على الفجوة ما بين حكومة الاحتلال، التي تستخدم الحرب وتطيل أمدها بهدف التشبث بالبقاء في السلطة؛ لحماية ذاتها من الملاحقة القانونية، سواء من محاكم الداخل أو من المحاكم الدولية- وبين المعارضة فحسب.

وإنما تبدو الفجوة آخذة في الاتساع، بين الحكومة واليمين المتطرف، الذي يُشكِّل أكبر داعم لها حاليا- وبين مجتمع صهيوني منهك، تراجع تأييده للمعركة إلى اقصى درجاته، منذ انطلاقتها في أكتوبر من عام ٢٠٢٣.

إذ لم تعد الحكومة تواجه أهالي الأسرى الصهاينة، الذين تحتجزهم المقاومة في غزة فقط، وإنما دخلت في مواجهة مع المؤسسة الأمنية، مع إقالتها لرئيس جهاز الأمن الداخلي “الشاباك” رونين بار، ومع المؤسسة القضائية ممثلة في المحكمة العليا، التي قررت تجميد قرار الحكومة بإقالة هذا الاخير.

ولعل الأخطر بالنسبة لهذه الحكومة، أن الانقسام والانشقاق قد وصل إلى المؤسسة العسكرية الصهيونية ذاتها.

إذ تجاوزت حالات التمرد ورفض الخدمة في قطاع غزة، الحالات الفردية التي برزت مع استئناف قصف القطاع المحاصر في مارس ٢٠٢٥، وإنما تحولت إلى حالة رفض جماعي للعودة للقتال هناك.

حيث أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية أن حوالي 950 من جنود وضباط سلاح الجو في الاحتياط، والذين لا يزال حوالي 10% منهم في الخدمة الفعلية، قد نشروا خطابا جاء فيه: “نطالب بإعادة الأسرى إلى بيوتهم دون أي تأخير، حتى وإن كان الثمن وقف القتال فورا، في هذه المرحلة، تخدم الحرب بالأساس مصالح سياسية وشخصية، وليس مصالح أمنية، وإن استمرار الحرب لا يخدم أيًّا من أهدافها المعلنة، وسيتسبب في مقتل أسرى، وجنود من الجيش، ومدنيين أبرياء، كما سيؤدي إلى إنهاك جنود الاحتياط.

كما ثبت في السابق، فإن الاتفاق وحده هو ما يُمكن أن يعيد الأسرى سالمين، بينما يؤدي الضغط العسكري في الغالب إلى مقتلهم وتعريض جنودنا للخطر.

ندعو جميع مواطني إسرائيل إلى الانخراط في العمل، والمطالبة في كل مكان وبكل وسيلة: أوقفوا القتال وأعيدوا جميع الأسرى الآن، كل يوم يمرّ يهدد حياتهم. وكل لحظة إضافية من التردد تُعدّ عارا”.

الرسالة أثارت غضب قيادة المؤسسة العسكرية الصهيونية، وهاجمها وزير الدفاع الصهيوني بشدة، كما اتخذ كلٌ من قائد سلاح الجو ورئيس الأركان قرارا سريعا بإقالة الطيارين الذين وقعوا عليها.

ورغم ترحيب وزراء اليمين المتطرف بالقرار المشار إليه أعلاه، إلا أن هذا لم يخفف من تبعات الرسالة، حيث وصفت القناة ١٢ العبرية هذا التطور بالأمر الخطير مؤكدة أنه “لا يمكن لشخص في قاعدة عسكرية توقيع رسالة ضد الحرب ثم العودة إلى الخدمة”.

وذكر مراسل القناة المشار إليها أعلاه أن “هذا القرار هو ضربة كبيرة لقوات ووحدات سلاح الجو، حتى وإن كان الحديث يدور عن أقل من 100 جندي وضابط فعليا – هذه الأعداد ليست بسيطة، فضلا عن أن تدريب مثل هؤلاء يستغرق سنوات واستثمار هائل”.

كما أن قرار قيادات المؤسسة العسكرية، لم يفت في عضد الطيارين الموقعين على الرسالة، حيث أدلوا ببيان صحفي في تل أبيب وقالوا: “كل هذه القصة أصبحت أكبر وأكثر درامية مما توقعنا، القضية ليست سلاح الجو ولا الطيارين، بل الـ 59 أسيرا الذين كان من المفترض أن يُطلق سراحهم منذ زمن. نحن مثل الغالبية الساحقة من الشعب، نعتقد أنه يجب إعادتهم الآن حتى لو كان الثمن هو وقف القتال”.

وهو موقف لاقى استحسانا من أهالي الأسرى الصهاينة، حيث صرحت والدة أسير صهيوني موجهة حديثها للطيارين المذكورين أعلاه: “كونوا واثقين ولا تخشوا ما يقوله أعضاء الحكومة” وأضافت “الرهائن بحاجة إلى نضالكم من أجل عودتهم”.

ولم تكد حكومة العدو تستفيق من رسالة الطيارين؛ حتى امتدت عدواها إلى أسلحة أخرى في جيش الاحتلال.

حيث أفادت القناة 12 العبرية إن “مئات الجنود من سلاح المدرعات وسلاح البحرية ينضمون إلى رسالة الطيارين المطالبين بوقف الحرب وإعادة الأسرى”.

وأكدت صحيفة يديعوت أحرونوت الخبر بقولها: “حوالي 150 ضابطا من سلاح البحرية وجّهوا رسالة إلى رئيس الحكومة، ووزير الدفاع وأعضاء الكنيست، والمستوى السياسي، وقيادة الجيش، جاء فيها: “59 أسيرا ما زالوا في أنفاق حماس، والدولة تبتعد أكثر فأكثر عن التزامها بإعادتهم، ندعو إلى وقف الحرب وإعادة النظر في السياسة المتّبعة، نحن من يتحمّل العبء. لكن المسئولية تقع على عاتقكم”.

كما أن عشرات الأطباء في قوات الاحتياط وقَّعوا على رسالة جديدة تدعو إلى إيقاف الحرب في غزة وإعادة الأسرى فورا.

وفي مقابل الانقسام الصهيوني الذي وصل إلى درجة الانشطار، تبدو الصورة التي ترسمها الصحافة العبرية للمقاومة في قطاع غزة مغايرة تماما.

حيث تؤكد أنها، ورغم ما ارتكبه العدو في غزة من جرائم، لا تزال محتفظة بتماسكها وإمكانياتها.

إذ ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن جيش الاحتلال لم يحسم المعركة في رفح، وأنه بعد مرور شهور على تصريحات الجيش حول هزيمة لواء رفح التابع للمقاومة الفلسطينية، يتبين أن كتائب رفح ما زالت نشطة، وتدمير الأنفاق أيضا ما زال بعيدا عن التوقعات.

أما صحيفة هآرتس، فنقلت عن تقديرات أمنية أن المقاومة حاليا “تتجنب القتال في الأنفاق وتركز على تصنيع العبوات الناسفة” وأنها “تمتنع عن إرسال مقاتلين إلى الأنفاق؛ لأن بعضها يقع حاليا تحت سيطرة الجيش”٬ كما أنها “نجحت في تجنيد شباب جدد يقدر عددهم بنحو 40 ألفا” ولم تزد نسبة الأنفاق التي اكتشفها جيش الاحتلال في غزة – وفقا للصحيفة- عن 25% من مجمل الأنفاق التي تستخدمها المقاومة.

إن الفارق بين الصورتين واضح جلي، ولعل الصورة الثانية هي ما تفسر الصورة الأولى، فلولا صمود مقاومة وشعب غزة لأكثر من عام ونصف العام، لما كان هذا الانقسام في المعسكر الصهيوني، ولما أضحت دولة الاحتلال مصداقا للصورة التي يرسمها الخطاب القرآني : “تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock