رؤى

حوار الأنبياء: صالح عليه السلام وحوار المعجزة

يمثل حوار النبي صالح عليه السلام مع قومه “ثمود” قصة من قصص الأنبياء العظيمة التي جاءت في القرآن الكريم، حيث يتجلّى فيه الصراع بين دعوة الحق والباطل. بين نبي أرسله الله بالهدى لقومه وقوم عنيدين استكبروا في الأرض، وأعرضوا عن دعوة الله. قوم ثمود كانوا من الأقوام المشهورة بقوتهم الجسدية وبراعتهم في البناء، حيث كانوا ينحتون البيوت في الجبال، كما في قوله تعالى: “وَكَانُواْ يَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ” [الحِجر: 82].

أسلوب الحوار

بدأ نبي الله صالح عليه السلام، حواره مع قومه بدعوتهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع. كان صالح يحاول أن يُذكِّرهم بأن الله هو الذي خلقهم وأنعم عليهم بالنعم الكثيرة، وأن عبادتهم للأصنام ظلم لأنفسهم وإهانة لعقولهم؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ” [هود: 61].

واللافت في الآية هو لفظ “أَخَاهُمۡ” الذي يدل على العلاقة بين صالح عليه السلام، وبين قومه بما يعني أنه نشأ بينهم وعلاقته بهم علاقة “أُخوَّة”.

ملاحظة أُخرى، تخص الإنشاء والاستعمار.

من جانب الإنشاء “أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ”، فهو “إيجاد من غير واسطة شيء”؛ أي أوجد وجودا ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر. وعملية “الإنشاء” خاصَّةً بالله سبحانه وتعالى؛ لأن ما يخصُّ الإنسان هو الاختراع أو الإبداع، وهما عمليتان يستعان فيهما بأشياء أُخرى، سواء مادية موجودة في الأصل، أو معنوية كأفكار أو تجارب صنعها من سبقوه.

أما جانب الاستعمار “ٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا”، لنا أن نلاحظ أن أحرف “الألف والسين والتاء” تأتي للطلب؛ بمعنى أن “ٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ” هو طلب التعمير. لذلك، من الخطأ الشائع إطلاق اسم “الاستعمار” على المحتل، أي على الدول التي تحتل، أو كانت تحتل، دولًا أُخرى، وذلك من حيث إنها لا تقوم بتعمير الأرض المحتلة، بقدر ما تستنزف خيراتها و”استخرابها”؛ اللهم إلا إذا كان المقصود هو تعمير دول الاحتلال نفسها، وليس الدول المحتلة، عبر نهب خيرات هذه الأخيرة.

دلالات الحوار

ضمن أهم دلالات الحوار بين صالح عليه السلام وقومه.. تأتي الجوانب التالية:

من جانب، بالرغم من دعوة صالح المليئة بالحكمة والموعظة الحسنة، إلا أن قومه من ثمود كانوا عنيدين ومستكبرين، رافضين دعوة التوحيد. كان رد فعلهم هو “السخرية” من صالح، واتهامه بأنه قد تغيَّر عن حاله السابقة، كما في قوله سبحانه: “قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ” [هود: 62]. في هذا الرد، يظهر استنكار قوم ثمود لدعوة صالح، حيث اعتبروه في السابق شخصا يُرجى منه الخير والحكمة “قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا”؛ حيث المرجو هو “الإنسان المؤمل في الخير، ذكاءً وطموحا”.

ولكنهم بعد دعوته للتوحيد، أصبح القوم يرونه شخصا غريبا؛ يدعوهم لترك ما كان يعبده آباؤهم. لقد أصرُّوا على عبادة أصنامهم واعتبروا أن ما يدعوهم إليه صالح لا يتجاوز الشك والريبة. فـ”الشك”، هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، و”المريب” هو الذي يُظن به السوء؛ وهو ما يعني أن قولهم “وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ” يدل على عدم ترجيح صحة قوله في اعتقادهم. أما “مُرِيبٖ”، فيدل على أن فساد قوله أصبح هو المُرجح، بما يعني المبالغة في تزييف قوله.

من جانب آخر، يأتي ما يمكن تسميته بـ”معجزة الناقة”؛ حيث طلبت ثمود من صالح عليه السلام أن يأت “بِـَٔايَةٍ”، تثبت صدق نبوته، كما في قوله عزَّ وجل: “قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ ٭ مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا فَأۡتِ بِـَٔايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [الشعراء: 153-154]. وهنا، يبدو اتهام القوم لصالح عبر صيغة المبالغة “ٱلۡمُسَحَّرِينَ”، بما يعني وقوع السحر عليه أكثر من مرة، وهو لفظ يختلف عن “مسحور” الذي يعني وقوع السحر مرة واحدة. ومن ذلك قوله عزَّ من قائل: “قَالُوٓاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَٱبۡعَثۡ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ ٭ يَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٖ” [الشعراء: 36-37]. إذ، “سَحَّارٍ” ليس مجرد ساحر؛ ولكن هذه مهنته.

وقد استجاب الله تبارك وتعالى لدعوة صالح، فكانت الناقة معجزة تدل على قدرة الله وتأييده لنبيه صالح؛ كما لها دور كبير في “الحوار” بين صالح وقومه، حيث طلب منهم النبي صالح أن يذروا الناقة تأكل في أرض الله، وألا يمسوها بأي سوء؛ لأنهم إذا اعتدوا عليها سينزل بهم عذاب عظيم؛ كما في قوله سبحانه: “وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ” [هود: 64]. ليس هذا فقط؛ ولكن كما أخبرهم صالح عليه السلام، كانت الناقة تخرج لتشرب من الماء يوما، وفي اليوم التالي يشرب قوم ثمود، وهذا الترتيب كان اختبارا لهم؛ كما ورد في قوله تعالى: “قَالَ هَٰذِهِۦ نَاقَةٞ لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ٭ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابُ يَوۡمٍ عَظِيمٖ” [الشعراء: 155-156].

من جانب أخير، بالرغم من أن معجزة الناقة كانت دليلا واضحا على صدق نبوة صالح، إلا أن قومه لم يؤمنوا؛ بل تمادوا في عنادهم وطغيانهم؛ وقرروا أن يتخلّصوا من الناقة التي أصبحت رمزا للعذاب، فأقدموا على قتلها بالرغم من تحذيرات صالح المتكررة.

يقول الله سبحانه وتعالى: “فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوۡاْ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِمۡ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ ٱئۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ” [الأعراف: 77]. في هذا المشهد، نرى أنهم لم يكتفوا بقتل الناقة؛ بل استمروا في تحديهم لصالح ولرسالة الله، وطلبوا منه أن يأتيهم بالعذاب الذي توعّدهم به، في تصرف يدل على استخفافهم بقدرة الله ورسالته.

وبالرغم من أن الله تبارك وتعالى قد أعطاهم مهلة “ثلاثة أيام” قبل أن ينزل عليهم العذاب، ووبالرغم من أن هذه كانت فرصتهم الأخيرة للتوبة؛ لكنهم استمروا في طغيانهم واستهزائهم بصالح وعذاب الله. يقول عزَّ وجل: “فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ ٭ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٭ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ” [هود: 65-67].. ويقول عزَّ من قائل: “فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٭ فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ” [الأعراف: 78-79]

وهنا، لنا أن نُلاحظ أن “ٱلصَّيۡحَةُ” هي الصوت الشديد، وهي أشمل وأعم من “ٱلرَّجۡفَةُ” التي هي الاهتزاز أو الزلزال في مكان معين؛ هذا رغم أن “ٱلصَّيۡحَةُ” هي بعض من توابع “ٱلرَّجۡفَةُ” أو الزلزلة.. ذلك أن هذه الأخيرة تحدث تموجا في الهواء يؤدي إلى حدوث أصوات قوية تعصف بمن يسمعها.

لنا أن نُلاحظ أيضا “ٱلصَّيۡحَةُ” تُصيب أكثر من مكان وأكثر من “دار” أو “ديار” من حيث إن الصوت يمتد أسرع وفي محيط أوسع؛ في حين أن “ٱلرَّجۡفَةُ” يأتي تأثيرها في مكان معين أو “دار” واحدة.

لذلك جاء استخدام لفظ “دِيَٰرِهِمۡ” في حال ورود مصطلح “ٱلصَّيۡحَةُ”، كما في قوله سبحانه: “فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ ٭ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ” [الحِجر: 83-84]؛ وأيضا في [هود: 65،94]. وجاء استخدام لفظ “دَارِهِمۡ” في حال ورود مصطلح “ٱلرَّجۡفَةُ” كما في قوله تعالى: “فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دَارِهِمۡ جَٰثِمِينَ” [العنكبوت: 37]؛ وأيضا في [الأعراف: 78].

في هذا الإطار.. كان العذاب هو النهاية المنطقية لهذا الحوار بين نبي الله صالح وقومه؛ ومثلما كان إصرار قوم نوح وقوم هود في عبادة ما كان يعبد آباؤهم؛ كان الحال مع قوم صالح “أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا” [هود: 62].. فما كان من صالح عليه السلام، إلا أن يقول: “قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ” [هود: 63].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock