مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، تستمر المخاطر السياسية والاقتصادية، ليس فقط على الدولة السودانية التي أصبحت أقرب إلى الدولة الفاشلة؛ ولكن أيضا على محيطها الإقليمي، الذي وصلت إلى دوله بعض من إشكاليات الصراع الدائر في البلاد، منذ عامين.
واللافت، هو ما كشف عنه مؤتمر لندن، الذي دعت إليه وزارة الخارجية البريطانية، وعقد في 15 أبريل 2025؛ إذ كشف المؤتمر بجلاء عن تصدعات عميقة بين “الفاعلين الدوليين” بخصوص كيفية التعامل مع الأزمة السودانية. هذه التصدعات، كان من نتائجها فشل المؤتمر في الخروج بالحد الأدنى من ملامح حل هذه الأزمة، بل وصل الأمر إلى فشل المؤتمر في إصدار مجرد بيان ختامي متفق عليه بين الحاضرين الدوليين.
مؤتمر لندن
بعد عامين كاملين من اندلاع الحرب المفتوحة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، انعقد مؤتمر لندن؛ وقد كان المؤتمر بمثابة محاولة دولية جديدة لإنهاء النزاع، بل الصراع، الذي أدى إلى مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين، ودمار هائل في البنية التحتية والمؤسسات السودانية. إلا أن المؤتمر انتهى دون التوصل إلى نتائج واضحة، أو خارطة طريق لوقف الحرب الجارية في البلاد، ما أثار تساؤلات عديدة حول جدوى المساعي الدولية، وأعاد التأكيد على تعقيد المشهد السوداني وتشابك العوامل الإقليمية والدولية المؤثرة فيه.
إلا أن الملاحظة الجوهرية، في هذا الشأن، تتعلق بمشكلة التعامل الدولي، أو الغربي إن شئنا الدقة، مع الأزمة السودانية؛ فهذا التعامل ينبني على تبني مبدأ “التكافؤ”، غير الصحيح بالطبع، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. ومن الواضح أن هذا النهج غير صحيح، بسبب أنه من غير المنطقي التعامل مع ما يُسمى “قوات الدعم السريع”، كـ”فاعل” سياسي أو عسكري “شرعي”، على قدم المساواة مع الجيش السوداني، الذي يُشكل جزءا من جهاز الدولة السودانية. هذا، فضلا عن الإصرار على التعامل مع الجيش السوداني كـ”كيان منفصل” عن الحكومة السودانية، في محاولة لإظهار التمسك بعدم شرعية الحكومة منذ أحداث أكتوبر 2021.
دوافع المؤتمر
لعل أهم الدوافع إلى انعقاد مؤتمر لندن، وبدعوة من وزارة الخارجية البريطانية، تتمثل في أكثر من جانب:
من جانب، الذكرى السنوية الثانية للصراع العسكري السوداني؛ حيث إن اختيار الخامس عشر من أبريل لم يكن اعتباطيا؛ ففي هذا اليوم قبل عامين بدأت المعارك المباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم، وسرعان ما انتشرت إلى مختلف ولايات السودان. وقد أرادت الحكومة البريطانية، ومعها الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، “إحياء الذكرى” بجهد دبلوماسي يمنح الأمل بإمكانية وقف هذه الحرب المدمرة.
يبدو ذلك بوضوح، كنوع من حفظ ماء الوجه أمام الضغوط الإنسانية المستمرة؛ فالتقارير الصادرة عن منظمات الإغاثة الدولية، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي، تشير إلى تدهور كارثي في الأوضاع الإنسانية، خاصة في دارفور وكردفان والخرطوم. ملايين السودانيين يواجهون المجاعة، وأكثر من 10 ملايين باتوا في عداد النازحين داخليًا أو اللاجئين في دول الجوار.
من جانب آخر، غياب مسار تفاوضي فاعل؛ فمنذ انهيار مفاوضات جدة، في أواخر عام 2023، وغياب أي مبادرة فعالة، في عام 2024، برز فراغ تفاوضي خطير. لم تفلح الجهود الأفريقية، لا سيما مبادرة الإيغاد، في جمع الطرفين، كما أن المبادرات العربية اصطدمت بتضارب الأجندات. وعليه، جاءت مبادرة لندن كمحاولة لإحياء الزخم التفاوضي في إطار دولي أوسع.
هذا، فضلا عن المخاوف من تمدد الصراع إلى الإقليم؛ إذ بدأت آثار النزاع السوداني تتجاوز الحدود. فقد شهدت تشاد اضطرابات في الشرق بسبب تدفق اللاجئين، وأعلنت إثيوبيا عن قلقها من تزايد نشاط الجماعات المسلحة قرب حدودها مع السودان. كما تزايدت التقارير عن استخدام مرتزقة أجانب في النزاع، ما يهدد بجعل السودان ساحة صراع إقليمي بالوكالة.
من جانب أخير، يأتي العامل الأهم، تقاطع المصالح الدولية والإقليمية في السودان؛ فالسودان يتسم بموقع استراتيجي مهم، يطل على البحر الأحمر، ويمتلك موارد طبيعية هائلة. ومن ثم، هناك مخاوف من أن يؤدي استمرار الصراع إلى فقدان الغرب نفوذه في مقابل تعاظم الدور الروسي، عبر مجموعة فاغنر، والدور الإماراتي- المصري المتباين. وقد رأت لندن في عقد المؤتمر فرصة لإعادة تنظيم الحضور الدولي في الأزمة السودانية.
ملامح الفشل
رغم الحضور الواسع لممثلي أكثر من 30 دولة، بما فيها أعضاء دائمين في مجلس الأمن، إضافة إلى منظمات أممية وإقليمية، فقد فشل مؤتمر لندن في الوصول إلى نتائج عملية واضحة. ويمكن تلخيص ملامح هذا الفشل في عدة نقاط:
من جهة، غياب طرفي الصراع الرئيسين؛ حيث لم يشارك أي ممثل رسمي عن الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع في المؤتمر، الأمر الذي حوّل المؤتمر إلى اجتماع تشاوري للدول الداعمة، دون حضور الأطراف المعنية مباشرة بالنزاع. وبالرغم من محاولات بريطانية وأممية لإقناع الطرفين بإرسال وفود غير رسمية، إلا أن الرفض كان قاطعا من الطرفين؛ إذ يرى الجيش أن المؤتمر منحاز للدعم السريع، فيما ترى الأخيرة أنه لا يمكن التفاوض قبل اعتراف دولي بشرعيتها.
من جهة أخرى، هناك الانقسام “الغربي” حول الأزمة السودانية؛ فبالرغم من الخطاب الموحد الذي حاول المؤتمر تبنيه، إلا أن الخلافات كانت واضحة بين أعضائه. فرنسا وألمانيا دعتا إلى فرض عقوبات على القيادات العسكرية السودانية، فيما تحفظت الإمارات والسعودية ومصر على ذلك؛ أما الولايات المتحدة فقد تحدثت عن ضرورة دعم “الانتقال المدني”، لكن لم توضح آليات ذلك، ما جعل الموقف العام غير منسجم.
من جهة أخيرة، هناك ما يمكن تسميته الفشل في الاتفاق على ملامح توافق؛ إذ، فشل المؤتمر في إنتاج خارطة طريق لحل الأزمة؛ فقد اكتفى المؤتمر بإعلان نوايا ودعوات لوقف إطلاق النار، دون أي التزام من الأطراف أو جدول زمني. لم تُطرح خارطة طريق عملية، ولم تشكّل لجنة متابعة، أو آلية دولية للإشراف على أي وقف محتمل للأعمال العدائية.
تداعيات محتملة
هنا، تتبدى التداعيات المحتملة لفشل المؤتمر في الخروج بملامح اتفاق حول توصيف الأزمة في السودان، وحول الحد الأدنى من ملامح الحل.
من أهم هذه التداعيات، تعزيز قناعة الحل العسكري واستمرار الصراع؛ فقد أدى فشل المؤتمر إلى تعزيز القناعة لدى الجيش والدعم السريع، كليهما، بأن الحل سيكون ميدانيا، لا سياسيا؛ عسكريا لا تفاوضيا. فقد فسرت قيادة الطرفين غياب الضغوط الدولية الجادة، على أنه ضوء أخضر لمواصلة القتال لتحقيق مكاسب أكبر على الأرض.
أضف إلى ذلك، أن فشل المؤتمر أدى إلى إضعاف المسار “الدولي” و”الإقليمي” في محاولة حل الأزمة؛ إذ، كان مؤتمر لندن بمثابة اختبار لمصداقية الإرادة الدولية، والإقليمية، في إنهاء الصراع. فشل المؤتمر أعطى الانطباع بأن المجتمع الدولي عاجز أو غير جاد، ما سيؤدي إلى تقويض فرص أي جهود مستقبلية، سواء عبر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، أو حتى الدول الإقليمية و/أو العربية.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن النتيجة المتوقعة لغياب مظلة دولية، أو قارية، فاعلة، سوف تؤدي إلى توجه الأطراف المتصارعة إلى تعزيز تحالفاتها الإقليمية؛ وهو ما يساهم في الانزلاق إلى الاصطفافات الإقليمية، التي سوف تزيد من خطر تدويل الأزمة، وتحول السودان إلى ساحة لصراعات بالوكالة.
يعني هذا، في ما يعنيه، أن مؤتمر لندن مثّل لحظة رمزية حاول فيها “الغرب”، بمشاركة أطراف إقليمية، إظهار اهتمامه بالأزمة السودانية، لكنه فشل في ترجمة هذا الاهتمام إلى خطوات عملية ملموسة. هذا الفشل لا يعني فقط ضياع فرصة لإحراز تقدم، بل يُنذر بتحول الأزمة إلى صراع طويل الأمد، على غرار الحروب المزمنة التي كان السودان قد مرَّ بها من قبل. وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام “سؤال التداعيات”.