رؤى

دوافع مشاركة الجزائر.. في اجتماع طرابلس “التشاوري” (1-3)

قاطعت عدة دول عربية اجتماعًا استضافته حكومة الوحدة الوطنية (المنتهية الولاية)التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، في طرابلس الأحد 22 يناير، حيث أوفدت خمس دول فقط من أصل اثنين وعشرين بلدا عضوا في جامعة الدول العربية – وزراء خارجيتها، فيما غاب أيضا عن الاجتماع الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط.

وفي حين غابت الدول العربية الرئيسة، مصر والسعودية والإمارات، بشكل كامل عن اللقاء؛ فقد حضر الاجتماع الذي دعت إليه حكومة الدبيبة، وزراء خارجية الجزائر وتونس والسودان وجزر القمر وفلسطين فقط، إلى جانب وزير الدولة لشئون الخارجية القطرية سلطان المريخي، ومعهم المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، وممثلون عن الاتحاد الأفريقي.

وهنا يبدو أن التساؤل الذي يطرح نفسه، في ظل هذا الوضع العربي، المنقسم فعليًا بخصوص الأزمة الليبية الممتدة لسنوات طويلة.. هذا التساؤل هو: ما دوافع مشاركة الجزائر في اجتماع طرابلس “التشاوري”، رغم ما بدا بوضوح من قبل الاجتماع أن عدد الدول العربية التي سوف تشارك، سيكون عددا “خجولًا”.

وهنا أيضا سنحاول عبر مقالات “ثلاثة” متتالية، استعراض الموقف الجزائري من الأزمة الليبية عمومًا، وانحيازها تحديدًا إلى جانب “غرب” البلاد دون شرقها.. ليس فقط لأن الجزائر دولة ذات إمكانيات مهمة في شمال أفريقيا وجنوب البحر المتوسط وأوروبا؛ ولكن لأنها ببساطة تتنافس بشكل لافت مع الدولة المركزية في شمال أفريقيا، وفي أفريقيا كقارة، وفي منطقة جنوب وجنوب شرق المتوسط.. مصر.

تُعد الجزائر ضمن دول الجوار الجغرافي، التي تأثرت بحالة الفوضى المنتشرة في ليبيا، بعد إسقاط نظام القذافي؛ حيث أدى تدهور الوضع الليبي، وانفتاح جبهة الصراع الداخلي المسلح، إلى انتشار السلاح على الحدود الليبية بالقرب من الجزائر، بالإضافة إلى بروز جماعات العنف والتنظيمات الإرهابية وما تُمثله من تهديد واضح للأمن الوطني الجزائري.

هذا، فضلا عن حالات النزوح والهجرة للمواطنين الليبيين إلى الجزائر، وغيرها من دول الجوار الليبي.

والملاحظ أن التأثيرات التي تسببت بها الأزمة الليبية على الأمن الجزائري – قد تعددت؛ وذلك نتيجة كون ليبيا تُمثل امتدادًا وعمقًا جغرافيًا للدولة الجزائرية، حيث يتشارك البَلَدَان حدودا تمتد حوالي 989 كيلو متر، وهي حدود طويلة يصعب ضبطها والسيطرة عليها بسهولة، خصوصا مع حالة الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة في ليبيا، وتزايد أعداد الفاعلين والمتدخلين في الأزمة.

وبالتالي، احتل الملف الليبي صدارة أولويات السياسة الخارجية الجزائرية، خاصة منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم. وتمثلت محصلة شبكة العلاقات الجزائرية بمختلف القوى الناشطة على الساحة الليبية، في محاولة بناء “توازن” يقوم، في شِقِّه السياسي، على استمرار دعم حكومات طرابلس، حكومة “الوفاق” التي ترأَّسها فائز السراج، ومن بعدها حكومة “الوحدة” التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة؛ لكن مع محاولة إنهاء القطيعة مع شرق ليبيا.

كما يقوم، في شِقِّه العسكري، على الامتناع عن تقديم الدعم العسكري المباشر لميليشيات غرب ليبيا، مع صرف النظر عما تقوم به تركيا ودول أخرى، في هذا الشأن، لخلق توازن ميداني مع الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده خليفة حفتر؛ لتكتفي الجزائر بـ”تصريحات” متكررة عن رفضها كافة أشكال التدخل العسكري الخارجي في ليبيا.. وهو ما يمكن تأويله على أكثر من وجه.

واللافت، أن المُقاربة الجزائرية في التعامل مع الأزمة الليبية، قد تبدّت من خلال عدة مؤشرات.. أهمها المؤشر الخاص بأن انهيار الدولة في ليبيا، يأتي في مقدمة مصادر تهديد الأمن الجزائري.

لقد تسبب انهيار الدولة الليبية في بروز عدة مصادر لتهديد الأمن الجزائري.. لعل أهمها ما يلي:

تبرز أهم التهديدات في انكشاف الحدود الشرقية للجزائر، في ظل غياب التغطية الأمنية والعسكرية من الجانب الليبي، الذي أصبح مصدرا للتهديد بعد أن كان، في السابق، مصدرا للمساهمة في تأمين الحدود مع الجزائر؛ وذلك ما فرض على الدولة الجزائرية أعباء إضافية، في ظل عجز باقي دول الجوار المتشاركة في الحدود مع ليبيا والجزائر، وفي مقدمتها تونس، عن المساعدة في تأمين الحدود.

ومع انكشاف الحدود الجزائرية، وانتشار الفوضى وانعدام الأمن في ليبيا، توافد اللاجئون والنازحون الليبيون إلى الداخل الجزائري، مثل توافدهم إلى مصر وتونس؛ ومن ثم، تزايدت أعداد النازحين واللاجئين الليبيين في الجزائر زيادة ملحوظة، رغم إغلاق الحدود البرية الجزائرية.

من جهة أخرى، تنامي تجارة السلاح وتهريبه، مع تزايد نشاط وتهديدات الجماعات المتطرفة والإرهابية؛ فقد ساعد انهيار الدولة في ليبيا على نشوء حالة من فوضى تهريب السلاح، بسبب نهب مخازن السلاح الليبي من قِبل الميليشيات الليبية المسلحة، وهو ما أصبح يُهدد أمن المنطقة بأكملها (منطقة شمال أفريقيا مُضافًا إليها منطقة الساحل الأفريقي)، وخاصة الأمن القومي للدولة الجزائرية.

فقد استغلت جماعات تهريب السلاح، الحدود الشاسعة بين الجزائر وليبيا، لتهريب كميات ضخمة من الأسلحة؛ بل، إن العديد من التحقيقات قد أشارت إلى أن الجزائر أصبحت سوقًا لمختلف الأسلحة الليبية الخفيفة، وبأسعار مناسبة.

ولعل أخطر ما في مسألة تهريب السلاح الليبي، هو تسرب نسبة منه إلى الجماعات والتنظيمات الإرهابية، التي تنشط في كامل ربوع الساحل الأفريقي ومنطقة المغرب العربي؛ وقد أصبحت الحدود الجنوبية بين ليبيا والنيجر ومالي والجزائر، “بقعة مفتوحة” تتخذ منها جماعات إرهابية مركزًا للتخطيط وتنسيق أنشطتها وعملياتها.

وكما هو الحال في كافة الدول التي شهدت توترات واضطرابات وصراعات داخلية، أصبحت “الفوضى” الليبية بمثابة عامل جذب للمقاتلين الأجانب من مختلف الجنسيات، خصوصا ممن ينتمون إلى تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، كـ”فاعل جديد”. وقد قُدِر عدد المقاتلين الأجانب، حسب تقرير أعده معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في الفترة ما بين 2011-2017، بحوالي “2700-3500” مقاتل أجنبي.

من هنا، تشكل لدى صانع القرار في الجزائر تخوّفٌ كبير من عودة “الإرهاب” إلى الداخل الجزائري، كما كان عليه الوضع خلال سنوات “العشرية السوداء”، خاصة في ظل قُرب عدد كبير من مصادر المصالح الاستراتيجية للجزائر من الحدود الليبية، مثل حقول النفط والغاز والشركات العالمية العاملة هناك.

فضلًا عن ذلك، فقد دخل عامل جديد وهو تحول ليبيا إلى حلبة صراع بين القوى الإقليمية والدولية. إذ إن تتابع التدخلات العسكرية من قبل قوى دولية متعددة، مثل فرنسا وروسيا وتركيا، وما يصاحب هذه التدخلات من إرسال مقاتلين، غير نظاميين، مثل “قوات فاغنر” الروسية، و”المقاتلين السوريين” الذين نقلتهم تركيا لدعم القوات الموالية لحكومة “الوفاق” الليبية؛ له تداعيات سلبية على الأمن القومي للجزائر.

أيضا، تَمَرْكُز وتأسيس وتطوير قواعد عسكرية من قِبل دول عدة، مثل تركيا وفرنسا والإمارات، وما تواكب مع ذلك من إرسال خبراء عسكريين من هذه الدول، إلى الداخل الليبي؛ كل هذا ساهم في تحول ليبيا إلى ساحة تتصارع فيها القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يعني تزايد التهديد الأمني للجزائر، من منظور أن ليبيا تُمثل عمقا حيويا واستراتيجيا للدولة الجزائرية، وما يحدث بداخلها يرتبط بمصالح الجزائر وأمنها القومي بشكل مباشر.

وهكذا.. مَثّلَ انهيار الدولة الليبية – وما يزال يُمثل- أزمة متراكبة الطبقات بتداعيات إقليمية، تمتد إلى جميع دول الجوار الجغرافي للدولة الليبية بصفة عامة، ومن بينها الجزائر بصفة خاصة. وقد أفرزت الأزمة، الناتجة عن انهيار الدولة الليبية، تداعيات سلبية على الأمن القومي الجزائري، سواء على المستوى الأمني والسياسي، أو حتى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ ساهمت في انتشار تجارة السلاح على الحدود الليبية الجزائرية، إضافة إلى تزايد نشاط وتهديدات الجماعات المتطرفة والإرهابية في ليبيا، وكذلك مشكلات اللجوء والنزوح من الداخل الليبي إلى الداخل الجزائري. هذا، فضلا عن مشكلات التدخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، في الأزمة الليبية، وما تمثله من تداعيات سلبية، مضافة إلى سابقاتها، على الأمن القومي للجزائر.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock