رؤى

الجدل القرءاني.. ومصطلح “الجدال” في القرءان

الجدل هو صراع أو تناقض بين شيئين؛ وأيًا تكن مسألة “التناقض أو الصراع” هذه، سواء كانت بين شخصين أو فكرتين، أو حتى شيئين ماديين، فإن الجدل يقوم على “الثنائية”. وقد وصلنا في الحديث السابق إلى أن “الجدل” هو سمة للنفس الإنسانية والتناقض الكامن في داخلها، أي إن “الجدل قانون النفس الإنسانية”، ولذلك أطلقنا عليه “جدل الإنسان”، وهو تعبير استخدمه كثيرون مثل عصمت سيف الدولة ومحمد شحرور ومحمد باقر الصدر.. وغيرهم.

أما الجدال بوصفه اسما ومصدرا للفعل الرباعي “جادل”، فهو يُعبر عن “عمل إنساني واعٍ”، بما يعني “الاستخدام الإنساني لقانون الجدل، بأسلوب واعٍ للوصول إلى هدف محدد”.

واللافت لسانيا أن الجدل بوصفه قانونا، يختلف عن الجدال الذي هو مصدر الفعل الرباعي “جادل”، على وزن “فَاعَل”، كـ”الجهاد” وليس الجهد، و”القتال” وليس القتل، والخصام وليس الخصم. ومن ثم، فـ”الجدال” يُعبر عن “فعل إنساني واعٍ لا يقوم إلا بين طرفين”، سواء كان كل طرف منهما فردا أو جماعةً.

وكما أشرنا، فقد قام بعض من أصحاب المعاجم، وتابعهم في ذلك عددٌ من المفسرين، وتابعيهم، وتابعي تابعيهم، في القول بأن حرف “الألف” المشاركة في مصطلح الجدال هي ألف زائدة؛ وأن الأصل في الجدال هو الفعل الثلاثي “جدل”، وكان هذا -وما يزال- خطأً فاحشا.. لسبب بسيط، أن “الألف” أصلية في الفعل الرباعي، وفي كل الأفعال الرباعية في اللسان العربي، فما بالنا باللسان القرءاني. وبالتالي، فإن إسقاطها يحوِّل الجدال إلى جدل، مثلما يحوِّل الجهاد إلى جهد، والقتال إلى قتل.

مصطلح الجدال

بالنسبة إلى مصطلح “الجدل”.. فقد ورد مرتين فقط في التنزيل الحكيم؛ يقول الله تعالى: “وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ يَصِدُّونَ ٭ وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ” [الزخرف: 57-58].. ويقول سبحانه: “وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا” [الكهف: 54].

أما مصطلح “الجدال”.. فقد ورد أيضا في مرتين فقط، ضمن المرات التي ورد فيها في التنزيل الحكيم. وكما أشرنا من قبل، فإن مصطلح الـ”جِدَالَ” يُشير إلى “عمل إنساني واعٍ”، بمعنى “الاستخدام الإنساني لقانون الجدل، بأسلوب واعي للوصول إلى هدف محدد”.. بعبارة أُخرى، هو مصطلح يُعبر عن “أسلوب في المناقشة والاستدلال على صحة وجهة نظر معينة”.

يقول عزَّ وجل: “ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ” [البقرة: 197]. ولنا أن نُلاحظ، هنا، في الآية الكريمة “ثلاثية” النهي الإلهي “لَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ”.

والـ”رَفَثَ”، مصدر يُشير إلى “التصريح بما يكنى عنه من ذِكْر النكاح”، وهو إشارة دلالية إلى “مُباشرة الذكر للأنثى، والجماع بها”. وقد ورد مصطلح الرفث، بهذه الدلالة، في موضعين في التنزيل الحكيم، منهما هذه الآية الكريمة؛ ومنهما قوله سبحانه: “أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ…” [البقرة: 187].

أما الـ”فُسُوقَ”، فهو “الخروج عن الشيء الواجب فعله”. وقد ورد فعل “فسق” ومشتقاته في التنزيل الحكيم، في 54 موضعا، إلا أن مصطلح الـ”فسوق” لم يرد إلا في أربعة مواضع فقط ضمن هذه المواضع؛ مرتين منها ورد غير معرف بـ”الـ” التعريف، منهما هذه الآية الكريمة؛ والمرتان الأخريان ورد فيهما مُعرفا بـ”الـ” التعريف، كما في قوله تعالى: “وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ” [الحجرات: 7]؛ بما يؤكد على أن “ٱلۡفُسُوقَ” هو غير “ٱلۡعِصۡيَانَۚ” ويختلف عنه، وعن “ٱلۡكُفۡرَ” أيضا.. وذلك قياسا على قاعدة أن “لا ترادف في اللسان القرءاني”؛ وخلافا -في الوقت نفسه- لكثير مما يُطلق عليها “معاجم” اللغة العربية.

أما الموضع الآخر، الذي ورد فيه مصطلح الـ”جِدَالَ”، ويؤكد على ما وصلنا إليه من تعريف دلالي للمصطلح، فقد ورد في قوله سبحانه وتعالى: “قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [هود: 32].

ولنا أن نُلاحظ، هنا، مسألتين:

المسألة الأولى، أن هذه الآية الكريمة هي الآية الوحيدة في التنزيل الحكيم، التي ورد فيها الاسم “جِدَالَ” مع الفعل “جَٰدَلۡتَنَا”. وكما يبدو، من السياق القرءاني في السورة التي تتضمن هذه الآية، سورة “هود”، أن نبي الله نوح، كما أشرنا من قبل عند الحديث عن حوار نوح عليه السلام مع قومه، بالرغم من سنوات الدعوة الطويلة ورفض قومه للدعوة، لم يتوقف عن محاولاته لهدايتهم. كان دائما يسعى لإيجاد طرق جديدة لإقناعهم، سواء بالترغيب والترهيب أو بالمنطق والحكمة. ولكن قومه استمروا في تكذيبهم ورفضهم، بل زادوا في تحديهم بأن طلبوا منه أن يأتيهم بالعذاب الذي كان يهددهم به. ومن ثم، فقد جاءت خاتمة الآية لتُشير إلى قول قوم نوح وتحديهم له: “فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ”.

وبالتالي، يوضح هذا السياق، القرءاني، أن “أَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا” هو تعبير عن طول الفترة الزمنية التي كان نوح يستخدم فيها “الجدال” مع قومه بشكل واعٍ، في محاولة منه لهدايتهم؛ وفي الوقت نفسه يوضح السياق ذاته أن الفعل “جَٰدَلۡتَنَا” هو إشارة إلى أن نوح عليه السلام هو مصدر الفعل الرباعي “جادل”، أي إنه “الفاعل” في عملية “الجدال”.

فعل جادل

فضلا عن مصطلح “الجدل” الذي ورد في موضعين اثنين، وإضافة إلى مصطلح “الجدال” الذي ورد هو الآخر في موضعين اثنين؛ فقد ورد الفعل “جادل”، ومشتقاته، في “خمسة وعشرين” موضعًا، ضمن آيات التنزيل اللحكيم. من بين هذه الأفعال، فعل الأمر “جَٰدِلۡهُم” الذي ورد في قوله عزَّ من قائل: “ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ” [النحل: 125].

وهنا، لنا أن نُلاحظ أن “سَبِيلِ رَبِّكَ” تدل على “الطريقة والنهج” الذي يوصي به رب العالمين عباده؛ أما “ٱلۡحِكۡمَةِ” فهي “وضع الشيء في موضعه المناسب”، بمعنى “الدلائل القطعية”. وتتكامل “ٱلۡحِكۡمَةِ” مع “ٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ”، التي تؤشر إلى “الأسلوب الجيد في عملية النصح”، من حيث إن “ٱلۡمَوۡعِظَةِ” هي النصيحة.. ليس فقط، ولكن أيضًا مع فعل الأمر المشروط بأسلوب معين “وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ”. وهنا، أيضًا، لنا أن نُلاحظ “ثلاثية” الجوانب، أو بالأحرى الجوانب الثلاثة في الدعوة إلى “سَبِيلِ رَبِّكَ”.. وهي الثلاثية التي تُعبر عنها الآية الكريمة “بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ”.

والذي نود التأكيد عليه، هنا، هو اختلافنا مع الرازي في تفسيره لهذه الآية الكريمة، في كتابه “التفسير الكبير”؛ فهو، أي الرازي، يرى أن الله تبارك وتعالى “قد قصر الدعوة على ذكر القسمين: الدعوة والموعظة الحسنة؛ أما الجدل فليس من باب الدعوة، بل المقصود منه غرض آخر مُغاير للدعوة”. وهذا، في نظرنا، غير صحيح.. لأكثر من سبب؛ منها أن الرازي يخلط بين مصطلح “الجدل” وفعل الأمر “جادلهم”، من حيث كونه يعتبرهم شيئًا واحدًا، وهما ليسا كذلك، من المنظور الدلالي.

أضف إلى ذلك، أن “جَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ” تأتي معطوفة على “ٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ”؛ ومن ثم، فمحاولة الفصل ليست صحيحة من منظور اللسان القرءاني، بما يدل على أن الثلاثية الواردة بالآية الكريمة، في الوقت الذي تشير فيه إلى أسلوب الدعوة إلى “سَبِيلِ رَبِّكَ”؛ فهي، في الوقت نفسه، تأتي دليلًا على الأسلوب الذي فرضه الله تبارك وتعالى في عملية “الجدال”، عبر فعل الأمر “جَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ”.

وللحديث بقية.

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock