رؤى

دوافع ومآلات.. زيارة أحمد الشرع إلى باريس

في تحول دبلوماسي لافت على الساحة الدولية، زار الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، العاصمة الفرنسية باريس زيارة رسمية، يوم الأربعاء 7 مايو 2025، حيث التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعدد من كبار المسئولين الفرنسيين، في أول زيارة لرئيس سوري إلى فرنسا، منذ أكثر من 14 عاما. وتأتي هذه الخطوة وسط متغيرات إقليمية ودولية متسارعة، وفي سياق محاولات إعادة تأهيل النظام السوري سياسيا واقتصاديا، بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

بالطبع، أثارت الزيارة تساؤلات عديدة حول دوافعها، والجهات التي دفعت بها، وكذلك مآلاتها المحتملة..

على صعيد العلاقات السورية الأوروبية، وتوازنات القوى في الشرق الأوسط.

سياق الزيارة

شكّل وصول الشرع لسدة الحكم في سورية -من وجهة نظر بعض الدول الأوروبية- نافذة للتعاطي مع مرحلة جديدة في تاريخ الدولة السورية.

وكما يبدو.. يحاول الشرع التعامل بخطاب أكثر مرونة تجاه القضايا الدولية، وبتوجهات براغماتية تسعى إلى فتح قنوات مع الغرب، دون الانفصال عن الحلفاء التقليديين لسوريا مثل روسيا وإيران.

على الجانب الآخر، تمر فرنسا – كغيرها من الدول الأوروبية- بمرحلة مراجعة لسياساتها في الشرق الأوسط بعد إخفاقات متكررة في الملفات السورية والليبية والساحلية (الأفريقية)، وخصوصا في ظل التراجع الأميركي والانكفاء الغربي النسبي، ما فتح المجال لروسيا وتركيا وإيران لملء الفراغ. كما تواجه باريس ضغوطا داخلية تتعلق بأمنها القومي وملف الهجرة والإرهاب، وهي ملفات ترتبط ارتباطا مباشرا باستقرار سوريا.

دوافع دمشق

تتعدد الدوافع السورية من وراء هذه الزيارة على أكثر من جانب منها، السعي نحو الشرعية الدولية: إذ يسعى أحمد الشرع -من خلال هذه الزيارة- إلى تحقيق اختراق دبلوماسي مهم، على صعيد إضفاء الشرعية الدولية على النظام السوري “الجديد”. فزيارة باريس -بما تمثله من ثقل سياسي في الاتحاد الأوروبي- تفتح الباب أمام عودة سوريا إلى الحوار مع القوى الغربية، وربما نحو تخفيف تدريجي للعقوبات الأوروبية، وخاصةً تلك التي تمس الاقتصاد السوري بشكل مباشر.

والمُلاحظ أن القيادة السورية، تراهن على وجود تحول تدريجي، في “المزاج الأوروبي” تجاه الأزمة السورية، بعد ثبات النظام، وظهور أخطار جديدة تهدد القارة العجوز (الهجرة غير النظامية، والإرهاب العابر للحدود).

ويبدو أن باريس أصبحت ترى مصلحة، في التفاهم مع دمشق لضبط الحدود، وإعادة اللاجئين، والتعاون الاستخباراتي.

من جانب آخر، الحصول على مساعدات ودعم اقتصادي؛ فالاقتصاد السوري يُعاني من حالة انهيار شبه كامل، في ظل العقوبات الغربية، وغياب الاستثمار الخارجي، وتراجع الدعم الروسي نتيجة انشغال موسكو في أوكرانيا.

لذلك تسعى دمشق إلى جذب الاستثمارات الأوروبية، وطلب مساعدات إنسانية وتنموية، خصوصا في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، وإعادة الإعمار، حيث تبقى فرنسا بوابة أساسية للمال الأوروبي والدولي.

ومن جانب أخير، موازنة النفوذ الروسي الإيراني؛ إذ يبدو أن الشرع يحاول، من خلال الانفتاح على باريس، إرسال رسالة ضمنية للقوى الأخرى في طهران وموسكو بأنه يمتلك خيارات أخرى، في محاولة لإعادة التوازن في العلاقة مع القوتين المؤثرتين في الداخل السوري. هذه المناورة تعكس إدراك دمشق لحالة الإرهاق الروسي والانكماش الإيراني، واستغلالها لخلق هامش من الاستقلالية السياسية.

دوافع باريس

من جهة باريس، فإنها أيضا لها من الدوافع ما يجعلها توافق؛ بل وأن تطلب هذه الزيارة:

من أهم هذه الدوافع.. ما يتبدّى من محدودية البدائل أمام باريس؛ فبعد سنوات من دعم المعارضة السورية، وفشل رهاناتها على “تغيير النظام” السابق؛ أصبحت باريس أكثر ميلا إلى تبني نهج واقعي يُقر بالتعامل مع النظام السوري الحالي، بوصفه أمرا واقعا، ويتجه إلى البحث عن تسويات تدريجية.

كما أن غياب المعارضة السورية عن المشهد السياسي، وتشرذمها بعيدا عن “الحركة الحاكمة” في الراهن، جعل فرنسا مضطرة للتعاطي مع دمشق، برئاسة الشرع، كفاعل أساسي؛ هذا رغم مُفارقة أن الشرع، من أجل الزيارة، قد حصل على إعفاء من الأمم المتحدة للسفر إلى باريس، وذلك لأنه ما يزال مُدرجا على قائمة عقوبات الإرهاب، بسبب قيادته لجماعة “هيئة تحرير الشام” المسلحة، وهي جماعة تابعة لتنظيم “القاعدة” الإرهابي.

من جهة أخرى، التأكيد على مسألة الأمن والهجرة؛ حيث تشكل سوريا نقطة عبور رئيسة، في مسارات الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، كما ترتبط بملف المقاتلين الأجانب العائدين. ومن هنا، تسعى باريس إلى إعادة فتح قنوات أمنية واستخباراتية مع دمشق لضبط هذه الملفات، لا سيما في ظل تصاعد اليمين المتطرف في الداخل الفرنسي، الذي يستغل قضايا الهجرة والأمن في خطابه السياسي.

من جهة أخيرة، إعادة رسم دور فرنسا في الشرق الأوسط؛ ففي ضوء تراجع الحضور الأميركي، تحاول فرنسا لعب دور قيادي جديد في الشرق الأوسط، وتحقيق اختراقات في ملفات معقدة، مثل سوريا ولبنان والعراق، مستغلة غياب المنافسة الغربية، وانشغال واشنطن في أولوياتها الآسيوية. أضف إلى ذلك، محاولة فرنسا في مزاحمة النفوذ الروسي والإيراني، في الداخل السوري.

إذ، على الرغم من أن باريس تدرك عمق العلاقة بين دمشق وموسكو وطهران، إلا أنها تسعى، عبر الانفتاح الحذر على الشرع، إلى خلق موطئ قدم في المشهد السوري، واستعادة حضورها في منطقة باتت خاضعة إلى حد كبير لنفوذ خصومها الجيوسياسيين، وخاصة روسيا التي تعزز مواقعها في الساحل السوري.

مآلات محتملة

في هذا الإطار.. يمكن القول إن زيارة الشرع إلى فرنسا، تحمل دلالات رمزية عميقة، كونها تعكس بداية تحوّل في المواقف الأوروبية من الأزمة السورية، وتبرز محاولات دمشق للخروج من عزلتها الدولية. غير أن الرهانات تبقى محفوفة بالشكوك، لأن إعادة تأهيل النظام السوري تتطلب أكثر من لقاءات دبلوماسية، وتشترط إعادة هيكلة حقيقية للمشهد السياسي السوري، وهو ما لا يبدو في الأفق القريب.

ومع ذلك، فإن زيارة الشرع لباريس تبقى علامة فارقة في مسار الأزمة، وفرصة اختبار لإمكانية إعادة تشكيل النظام الإقليمي في المشرق العربي في ضوء توازنات جديدة.

يتبدى ذلك، بوضوح، عبر كثير من الأبعاد للمآلات المحتملة من الزيارة.. منها: أن الزيارة قد تؤدي إلى استئناف التعاون الأمني بين باريس ودمشق، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات حول التنظيمات المتطرفة، ومراقبة حركة العائدين من مناطق النزاع؛ خاصة أن النظام السوري الحالي يمتلك، معلومات كاملة حول كافة التنظيمات المسلحة العاملة في داخل سوريا.

ومنها، أيضا أن الزيارة قد تُشكّل رسالة سياسية لدول الخليج، التي بدأت بالفعل بإعادة علاقاتها مع دمشق، مفادها أن أوروبا أيضا بصدد إعادة التموضع، ما يعزز “شرعية” النظام السوري إقليميا، ويمنح الشرع دعما معنويا إضافيا في الداخل.

إلا أن اللافت، في الأمر.. أن الزيارة، في الوقت الذي لاقت فيه ترحيبا من موسكو، ووصفها بأنها “اعتراف غربي متأخر بشرعية الدولة السورية”؛ إلا أن واشنطن -في المقابل- لم تصدر موقفا رسميا واضحا، واكتفت بالتأكيد على موقفها الثابت من ضرورة الانتقال السياسي في سوريا!

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock