في أولى زياراته الخارجية، استهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الزيارة بالمملكة السعودية، الثلاثاء 13 مايو الجاري، ومن بعدها الإمارات وقطر؛ حيث تأتي هذه الزيارة، التي وصفها ترامب بـ”التاريخية”، في إطار حراك دبلوماسي متواصل بين واشنطن ودول الخليج العربية. وكما هو مُعلن، تتصدر جدول أعمال الزيارة ملفات التعاون الثنائي، والقضايا الإقليمية؛ هذا فضلا عن أنها تشمل منتدى استثماريا وقمة خليجية، إلى جانب لقاءات ثنائية.
وإضافة إلى أن هذه الزيارة، إلى منطقة الخليج العربية، هي الأولى خارجيا للرئيس الأمريكي، منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير الماضي؛ فإنها تأتي في توقيت بالغ الحساسية، حيث يشهد النظام الدولي محاولات إعادة تشكيله، في إطار تراجع الهيمنة الأحادية الأمريكية، وصعود بعض القوى الإقليمية. ولعل هذا يعني أن الزيارة تأتي في سياق المحاولة الأمريكية لإعادة تموضعها في الشرق الأوسط، بعد سنوات من الانكفاء النسبي، وتفاقم أزمات المنطقة خاصة في غزة واليمن وسوريا.
دوافع الزيارة
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، وتعقّد ملفات الطاقة والتحالفات في منطقة الشرق الأوسط، تأتي زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة السعودية.. حدثا محوريا؛ حيث تتجاوز أهمية هذه الزيارة إطار العلاقات الثنائية بين واشنطن والرياض، لتلقي بظلالها على موازين القوى في الإقليم، وتشكّل منعطفا جديدا في إعادة تموضع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
واللافت، أن الزيارة تأتي في وقت تتشابك فيه عدة ملفات إقليمية وعالمية؛ لعل من أهمها: استمرار الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على سوق الطاقة العالمي، وتعثّر مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران؛ وأيضا توتر العلاقات الأمريكية مع الصين وروسيا. أضف إلى ذلك، تصاعد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتهديد الملاحة الدولية، ومساعي واشنطن لإعادة ترميم تحالفاتها التقليدية في المنطقة.
ولعل هذا السياق، يمنح زيارة الرئيس الأمريكي إلى الرياض أهمية مضاعفة، ويفسّر تنوّع أهدافها، والتي تشمل ملفات استراتيجية تتداخل فيها المصالح الأمنية والاقتصادية.
ومن هنا، يمكن الإشارة إلى أهم الدوافع الأمريكية من وراء هذه الزيارة:
فمن جانب، هناك ملف الطاقة وأمن الإمدادات؛ التي تُعد من أبرز الدوافع التقليدية للسياسات الأمريكية تجاه الخليج العربي. ورغم التوجه الأمريكي نحو مصادر الطاقة البديلة والاستقلال النسبي في إنتاج النفط، إلا أن أي خلل في إمدادات الطاقة من الخليج، يؤثر مباشرة في أسعار السوق العالمية، ويهدد استقرار الاقتصادات الغربية. يتوازى مع ذلك، سعي واشنطن لضمان التزام السعودية باستقرار سوق النفط، وربما لعب دور في تخفيف قرارات “أوبك +” بشأن خفض الإنتاج، خصوصا في ظل الضغوط الداخلية التي يواجهها الرئيس الأمريكي بسبب التضخم وارتفاع أسعار الوقود.
من جانب آخر، هناك الملف الإيراني والتحالفات الإقليمية؛ فالولايات المتحدة تدرك أن احتواء إيران لا يمكن حدوثه دون دور محوري للسعودية، لا سيما بعد التقارب الإيران السعودي بوساطة صينية؛ وبالتالي، تسعى واشنطن إلى ضمان وجود دور أمريكي في توازن القوى الإقليمي؛ فضلا عن تقوية الشراكة الأمنية مع دول الخليج لمواجهة تهديدات إيران ووكلائها.
ويأتي، في هذا الإطار أيضا، أن الولايات المتحدة مهتمة بإنهاء الحرب في اليمن، بشكل لا يؤدي إلى توسع نفوذ إيران أو تهديد الملاحة. ومن ثم، يُمكن توقع الضغط على السعودية لدفع الحوثيين نحو حل سياسي؛ وفي الوقت نفسه، دعم المبادرات السعودية لتسوية النزاع، بما يضمن الاستقرار دون انفجار جديد في الجنوب.
من جانب أخير، هناك ملف التطبيع مع إسرائيل؛ إذ رغم أن السعودية لم تنضم رسميا إلى “اتفاقات إبراهيم”، فإن الضغوط الأمريكية مستمرة لدفع الرياض نحو مسار تطبيعي مع إسرائيل، ضمن رؤية أكبر لـ”ناتو شرق أوسطي”، يضم إسرائيل ودولا عربية في تحالف أمني ضد إيران ووكلائها في المنطقة، فضلا عن حركات المقاومة الفلسطينية حماس والجهاد.
وفي الإطار نفسه، يأتي السعي الأمريكي للحد من النفوذ الصيني والروسي المتنامي في الخليج؛ فالصين رعت تقاربا مُهمًّا بين الرياض وطهران، وتعدُّ الشريك التجاري الأول للسعودية. كذلك، حافظت روسيا على علاقات وثيقة مع إيران، وأقامت تعاونا نفطيا مع السعودية في إطار “أوبك +”؛ ومن ثم، تأتي الزيارة لتأكيد أن واشنطن لا تنوي التخلّي عن المنطقة؛ وأن التحالف مع واشنطن ما يزال يقدم للسعودية مكاسب يصعب توفيرها من خلال موسكو أو بكين.
جديد الزيارة
رغم أن الزيارات الرئاسية الأمريكية إلى السعودية ليست بالأمر الجديد، إلا أن زيارة الرئيس الأمريكي الحالية تحمل أبعادا نوعية تختلف عن سابقاتها. ويعود ذلك إلى المتغيرات الهيكلية التي طرأت على كل من الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، والنهج السعودي في السياسة الخارجية، فضلا عن التحولات الجيوسياسية العالمية. ويمكن حصر “الجديد” في هذه الزيارة في عدة محاور أساسية، من أهمها: الملفات الاقتصادية والتكنولوجية.
ففي الماضي، كان الطابع الأمني والعسكري يهيمن على زيارات الرؤساء الأمريكيين للمنطقة، أما اليوم فالجديد هو التركيز المتزايد على الاستثمارات التكنولوجية، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. كذلك، الشراكات في الصناعات الدفاعية، ومشاريع البنية التحتية والتعاون في المدن الذكية، مثل مشروع “نيوم”.
كذلك، هناك محاولة احتواء الصين خليجيًا، لا التحالف ضد إيران فقط؛ ففي الماضي، كانت كل التحركات الأمريكية في الخليج موجهة نحو احتواء إيران، لكن الجديد في هذه الزيارة أن الهدف الأوسع هو احتواء الصين؛ فالسعودية تمثل، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، مركزا ذا ثقل اقتصادي واستراتيجي، وإذا انجرفت نحو المحور الصيني الروسي، فإن ذلك يهدد الهيمنة الأمريكية في الإقليم.
ومن ثم، تسعى واشنطن إلى سحب البساط من تحت بكين، من خلال تعزيز الحضور الأمريكي في المشاريع الاستراتيجية السعودية، والخيج عموما، لا سيما المتعلقة بالطاقة النظيفة والرقمنة.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية ليست مجرد جولة دبلوماسية، بل تمثّل اختبارا حقيقيا لجدية واشنطن في استعادة مكانتها بالمنطقة، وقدرة السعودية على ترسيخ موقعها كقوة إقليمية. وبينما تبقى نتائج هذه الزيارة مرهونة بحجم التفاهمات، فإن تداعياتها ستتردد لسنوات، سواء في أمن الخليج، أو تحالفات الشرق الأوسط، أو حتى في مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي كل الأحوال، لم تعد الرياض هي نفسها، ولا واشنطن كذلك، والعالم العربي يشهد تحولا لم يكتمل بعد، لكنه قد يتسارع الآن.