رؤى

من مانديلا إلى موخيكا …رفض “الكرسي الساحر”

في أحد مشاهد المسلسل التاريخي المميز “ربيع قرطبة” للمؤلف الدكتور وليد سيف، والمخرج المبدع الراحل حاتم علي، يلهو حاكم الأندلس الشاب هشام المؤيد، مع إحدى جواريه داخل قاعة العرش.

وبينما هما يلهوان.. تَهِمُّ الجارية بالجلوس على العرش؛ فينهرها المؤيد. إذ كيف لجارية أن تجلس على عرشٍ، جلس عليه حكام الأندلس العظام، من أمثال أجداده: عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وأبوه الحكم المستنصر؟

لكن المؤيد ما يلبث أن يهدِّئ من روع الجارية، ويخبرها أنه يتفهم لماذا جلست على العرش، حيث أن له سحرا وجاذبيةً.. قل أن يقاومها الإنسان.

في عمل درامي آخر، لا يقل تميزا هو مسلسل “عمر بن عبد العزيز”٬ لكل من الكاتب والشاعر الراحل عبد السلام أمين والمخرج الراحل أحمد توفيق، يجد عمر بن عبد العزيز نفسه في مواجهة العرش، بعد أن عهد إليه ابن عمه المتوفى الخليفة الأموي سليمان عبد الملك بخلافته.

يطيل عمر بن عبد العزيز النظر، إلى العرش المطلي بالذهب والمرصع بالجواهر، ويبدو وكأن صراعا قد نشب بين الطرفين، بين غواية العرش وزهد ابن عبد العزيز وتقشفه.

ولكن ابن عبد العزيز، حفيد الفاروق عمر بن الخطاب، الخليفة الذي لم يسكن قصرا يوما، والذي “عدل فأمن فنام” يستطيع في النهاية أن يقهر غواية العرش، فيشيح بوجهه عنه ويكتفي بالقول “ردوه إلى بيت المال”.

بات من النادر في العصر الحديث، أن يجد الباحث حاكما استطاع أن يقاوم سحر الكرسي الخالي من الملوك أو أن يقهر غوايته.

لكن ثمة نماذج محدودة استطاعت ذلك، وقدّمت نموذجا مضيئا، لما يمكن أن يكون الحاكم عليه إذا ما زهد في كل ما سبق.

من بين هذه النماذج.. ذاك الذي جسَّده رئيس جنوب أفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا، الذي خرج من سجنه الذي دام ٢٧سنة، بسبب نضاله ضد نظام الفصل العنصري في بلاده؛ لينتخبه الشعب ليكون أول رئيس أسود للبلاد.

أبى مانديلا أن يستغل تاريخه النضالي؛ ليستمر في الحكم أو أن يعدّل دستور البلاد الصادر عام ١٩٩٦، والذي يحدد مدة الرئيس بولايتين فقط بواقع خمس سنوات لكل ولاية.

بل إن مانديلا اكتفى بولاية واحدة (١٩٩٤- ١٩٩٩) أتم خلالها مهمة المصالحة الوطنية، بين مكونات المجتمع من أغلبية سوداء وأقلية بيضاء.

كذلك فعل رئيس الأوروغواي الراحل خوسيه موخيكا، الذي وافته المنية في ١٣ مايو الجاري بعد مسيرة حافلة بالعطاء.

لا تختلف مسيرة موخيكا النضالية كثيرا عن مسيرة مانديلا؛ فكلاهما حمل السلاح ليواجه نظاما ديكتاتوريا حكم بلاده، وكلاهما دفع زهرة سنوات شبابه سجنا واعتقالا، بسبب مواقفه التي لم يحد عنها، وكلاهما خرج من سجنه؛ ليكمل دوره الوطني بشكل آخر، عبر صناديق الاقتراع، وكلاهما اكتفى بولاية واحدة في منصب الرئاسة.

منحت الصحافة موخيكا لقب “أفقر رئيس في العالم”، خلال فترة ولايته التي لم تدم سوى خمس سنوات (٢٠١٠-٢٠١٥) حيث رفض أيًا من امتيازات الرئاسة التي حصل عليها من سبقوه، في ذات المنصب.. كالسيارات الفاخرة والقصور الرئاسية وغيرها، وظل على طبيعته البسيطة الزاهدة حتى انتهت ولايته.

أغلب الظن أن سنوات السجن الطويلة التي مر بها كل من مانديلا وموخيكا هي التي حددت سلوك كلٍ منهما حين توليا حكم بلادهما.

إذ لم يكن سجنهم بالهين آو حتى بالعادي، وإنما كان عزلا عن العالم بأسره، وحرمانا من أبسط المتع الدنيوية وحقوق الإنسان، التي تكفلها القوانين والدساتير.

ولعل هذا تحديدا هو ما نمَّى في كلٍ منهما زهدا فيما يطمع فيه كثيرون، إذ هان في أعينهم سحر الكرسي المشار إليه في بداية هذا المقال، وتمكّنوا من قهره بدلا من أن يقهرهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock