رؤى

إشكاليات القراءة: التأويل وتجاوز “الفهم المغلق” للنصوص

يُمثل كتاب “إشكاليات القراءة وآليات التأويل”، للباحث المصري نصر حامد أبو زيد، الذي صدر عام 1991، أحد أهم الإسهامات في مجال الفكر النقدي العربي الحديث؛ حيث يحاول فيه المؤلف تفكيك وتحليل آليات القراءة والتأويل للنصوص الدينية، ويقدم نظرة نقدية للتفسيرات التقليدية التي تمارسها المؤسسات الدينية.

من خلال هذا الكتاب، يسعى أبو زيد إلى تجاوز الفهم التقليدي للنصوص، مؤكدا على أهمية فهم النص في سياقه التاريخي والثقافي، وداعيا إلى الانفتاح على المنهجيات الحديثة في التفسير، مثل الهرمنيوطيقا، وهي علم تفسير النصوص.

وينطلق أبو زيد من رؤية نقدية شاملة للتراث الديني، ويعتبر أن النصوص الدينية -بما فيها القرآن- تحمل معانٍ متعددة ترتبط بسياقات تاريخية واجتماعية معينة، وليست ثابتة أو مطلقة.. ويوضح أن أيّة محاولة لفهم النصوص الدينية، بعيدا عن سياقها التاريخي والاجتماعي، ينتج عنها تأويلات جامدة أو أحادية، تسهم في إعادة إنتاج الأنماط التقليدية التي قد تكون متعالية أو منغلقة على ذاتها. لذا، فهو يدعو إلى تجديد الفكر الديني باستخدام أدوات علمية حديثة تتجاوز الفهم النصي التقليدي.

تأويل النصوص

الهرمنيوطيقا، التي تحتل محورا رئيسا في أحد فصول الكتاب، خاصة الفصل الذي يأتي تحت عنوان “الهرمنيوطيقا.. ومعضلة تفسير النص”، هي علم تأويل النصوص الذي نشأ في الفلسفة الغربية، ويهدف إلى دراسة كيفية فهم النصوص وتفسيرها، خاصةً تلك التي تحمل طابعا دينيا أو فلسفيا.

في هذا الفصل، يقدم أبو زيد تحليلا شاملا لمفهوم الهرمنيوطيقا، ويبين أن هذه الآلية ليست مجرد أداة للتفسير، بل هي منهجية تحليلية تعيد النظر في العلاقة بين النص والقارئ، وتفتح المجال لإمكانية تعددية في التأويل.

ويرى أبو زيد أن الهرمنيوطيقا يمكن أن تكون أداة فعالة لفهم النصوص الدينية بشكل أعمق وأكثر شمولا، حيث تسمح للقارئ بتجاوز حدود الفهم التقليدي الجامد. فـ”النص”، بحسب رؤية أبو زيد، لا يمتلك معنى واحدا ثابتا، بل هو حقل مفتوح لتعددية التأويلات التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والثقافات.

في هذا الفصل، يطرح أبو زيد إشكالية جوهرية تتعلق بتفسير النصوص الدينية، وهي معضلة الفهم الجامد الذي يعتمد على تقليد الأجداد، دون السعي لتطوير فهم جديد يتماشى مع الظروف المعاصرة؛ حيث يشير إلى أن هذا الفهم المغلق للنصوص- يقف عائقا أمام إمكانية التطور الفكري والاجتماعي، ويخلق حالة من الانفصال بين النصوص الدينية والحياة الواقعية.

من وجهة نظر أبو زيد، فإن أزمة التأويل تكمن في النظرة، التي تعتبر أن النصوص تحمل معانٍ نهائية وأبدية؛ وهي نظرة -حسب رأيه- تؤدي إلى تعطيل العقل.. وتحجيم الفكر النقدي. وهو يرى أن النصوص، سواء الدينية أو غيرها، تمتاز بطبيعة معقّدة تتيح للقارئ التفاعل معها بطرق متعددة، ويؤكد على أن عملية الفهم والتأويل هي عملية ديناميكية وليست ثابتة.

منهجية التأويل

يستعين أبو زيد بالهرمنيوطيقا كمنهجية لتفكيك هذه الرؤية الجامدة؛ إذ يشير إلى أن الهرمنيوطيقا تعتمد على فكرة أن النص ليس وحدة منغلقة على نفسها، بل هو مفتوح للتفاعل مع القارئ. هذا فضلا عن تأكيده بأن النصوص لا تعيش في فراغ، بل تتفاعل مع التاريخ، والمجتمع، والثقافة؛ وهذا التفاعل يخلق دائما تأويلات جديدة تتناسب مع الظروف المتغيرة.

ومن ثم، يرى أبو زيد أن النصوص الدينية يجب أن تُقرأ وتُفهم في إطارها التاريخي والاجتماعي، وأن هذا الفهم لا يمكن أن يكون ثابتا أو نهائيا، بل يجب أن يتطور بتطور الحياة. كما يوضح أبو زيد أن الهرمنيوطيقا لا تهدف إلى تدمير المعنى الديني للنصوص؛ بل -على العكس- هي تسعى إلى فتح المجال أمام تعددية المعاني والتفسيرات، بحيث يمكن لكل جيل أن يجد في النصوص ما يناسبه، وما يتلاءم مع ظروفه. من هذا المنطلق، تصبح الهرمنيوطيقا وسيلة لإحياء النصوص الدينية، وإعادة تأويلها؛ بطرق تساهم في تحديث الفكر الديني وتحريره من الجمود.

ومن الجوانب الهامة التي يركز عليها أبو زيد، في هذا الكتاب، هي العلاقة بين القارئ والنص؛ حيث يرى أن القارئ ليس مجرد متلقٍ سلبي للمعاني، بل هو عنصر فاعل يساهم في إنتاج المعنى. هذه العلاقة بين القارئ والنص هي علاقة تفاعلية، حيث يساهم القارئ في تفسير النصوص وفقا لتجاربه ومعارفه وثقافته.

ويشير أبو زيد إلى أن هذا التفاعل بين القارئ والنص يتطلب انفتاحا على التأويلات المختلفة، وتقبلا لفكرة أن النصوص قد تحمل معاني متعددة. فالنصوص الدينية -بحسب رأيه- ليست نصوصا جامدة، بل هي نصوص حية تتيح للقارئ فرصة لإعادة تفسيرها في ضوء الظروف الراهنة. هذا الفهم التفاعلي للنصوص يشكل جزءا أساسيا من منهجية الهرمنيوطيقا التي يدعو إليها أبو زيد.

تعددية المعاني

إضافة إلى تأكيده على أن الهرمنيوطيقا لا تهدف إلى تدمير المعنى الديني للنصوص، بل -على العكس- هي تسعى إلى فتح المجال أمام تعددية المعاني والتفسيرات؛ يقدم أبو زيد نقدا لاذعا للتفسير التقليدي للنصوص الدينية، حيث يرى أن هذا التفسير يعتمد على منهجية متعالية تقرأ النصوص بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي الذي نشأت فيه. ويشير إلى أن هذا النوع من التفسير يتجاهل الطبيعة المتغيرة للحياة الإنسانية، ويخلق حالة من الجمود الفكري.

يرى أبو زيد أن التفسير التقليدي يغفل أهمية دور القارئ في إنتاج المعنى، ويختزل النص في معاني ثابتة ونهائية. هذا “الفهم المغلق” للنصوص يحول النصوص الدينية إلى أدوات قمعية تسهم في تكريس الهيمنة الفكرية والاجتماعية، بحسب رأيه. لذلك يدعو -بالتالي- إلى إعادة النظر في عملية التأويل بحيث تصبح عملية تحريرية، تهدف إلى تحرير النصوص من القيود التي فرضتها عليها التفسيرات التقليدية.

التأويل -كما يراه أبو زيد- يجب أن يكون عملية مستمرة؛ تهدف إلى فتح المجال أمام تعددية الفهم والتفسير؛ من منظور أن النصوص الدينية؛ يجب أن تظل مفتوحة للتفاعل مع الحياة والتطور، ولا يمكن أن تكون سجنا للفكر أو أداة للقمع.

يؤكد أبو زيد على أن الهرمنيوطيقا تقدم لنا آلية نقدية فعّالة، لتحليل النصوص الدينية وتفسيرها بطرق جديدة ومبتكرة. ويرى أن هذه الآلية تسمح لنا بفهم النصوص، في ضوء الظروف الاجتماعية والتاريخية التي نشأت فيها، وتفتح المجال أمام تأويلات تعددية ومتنوعة. ويدعو إلى استخدام هذه المنهجية وسيلةً لتجديد الفكر الديني وتحريره من الجمود، بما يتيح لنا التفاعل مع النصوص بطرق أكثر مرونةً وتفاعلا مع الواقع المعاصر.

في هذا الإطار.. يصل أبو زيد إلى نتيجة مفادها أن الهرمنيوطيقا قضية قديمة وجديدة -في الوقت نفسه- وهي في تركيزها على علاقة المُفسر بالنص، ليست قضية خاصة بالفكر الغربي؛ بل هي قضية لها وجودها المُلح في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء.

وختاما، يمثل كتاب “إشكاليات القراءة وآليات التأويل” لنصر حامد أبو زيد، دعوة إلى التجديد الفكري والقراءة النقدية للنصوص الدينية. وهو يحثّ القارئ على تجاوز الفهم التقليدي الجامد والانفتاح على آليات جديدة للتأويل، مثل الهرمنيوطيقا، التي تتيح لنا فهم النصوص بطرق أكثر ديناميكية ومرونة، تتماشى مع متغيرات الحياة الحديثة.

وهو ما يحاول التأكيد عليه عبر نماذج تطبيقية، من خلال فصول الكتاب؛ حيث يُقدم “مفهوم النظم” عند عبد القاهر الجرجاني، و”التأويل” في كتاب سيبويه، إضافة إلى تناوله قضية “الثابت والمتحول” في رؤيا أدونيس للتراث.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock