رؤى

ماذا تريد روسيا.. من التقارب مع العراق

في ظل سلسلة من العقوبات الاقتصادية المفروضة من الغرب على روسيا، بسبب الحرب في أوكرانيا، فضلا عن المزاحمة في سوق الطاقة؛ تحاول الدبلوماسية الروسية، التي يقودها وزير الخارجية سيرغي لافروف، التحرك في نطاق أوسع، في أفريقيا وآسيا، والشرق الأوسط الذي يُعتبر نقطة ارتكاز مهمة، بل “قفزة استراتيجية”، بالنسبة إلى روسيا، تحاول من خلالها أن تؤكد مكانتها كقوة كبرى، إضافة إلى ما تُمثله هذه الدوائر من بدائل وأسواق مختلفة، خاصة في مجال الطاقة ومبيعات الأسلحة.

في هذا الإطار، وصل وزير الخارجية الروسي، في زيارة رسمية إلى العاصمة العراقية بغداد، التي تُمثل المحطة الأولى في جولة يزور خلالها أيضا مالي والسودان؛ يبحث فيها مع المسئولين العراقيين العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والطاقة والتسليح، وعددًا من القضايا الدولية والإقليمية ومدى تأثرها بالحرب في أوكرانيا.

دوافع اقتصادية

الملاحظ، أن آخر زيارة للافروف إلى العراق كانت في عام 2019، وأن الزيارة الحالية التي يقوم بها تأتي قبل توجه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يوم الأربعاء 8 فبراير.

وتستهدف زيارة لافروف -إلى بغداد- عددًا من الدوافع الاقتصادية، أهمها الاستثمارات النفطية والغازية، إضافة إلى التعاون الاقتصادي وتفعيل مذكرات التفاهم المشتركة بين الجانبين.

فمن جانب، الاستثمارات الروسية في المجالات النفطية والغازية؛ يُعد قطاع الطاقة أساسيًا لنفوذ الكرملين في العراق؛ وقد استفادت روسيا من العقوبات الأمريكية المُشدَّدة على إيران، التي أعاقت ـ نسبيًا ـ تدفق الغاز الإيراني إلى العراق، من أجل تقديم نفسها بوصفها بديلًا فعالًا للحكومة العراقية. ويبدو أن الطموح الروسي لم يتوقف عند حدود السيطرة،- شبه الكاملة- على قطاع الطاقة في إقليم كردستان العراق، عبر شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنفت”؛ بل باتت تطمح لتأسيس وجود نفطي أكثر قوة في قطاع النفط القوي في جنوب البلاد.

وبحسب الأرقام التي يذكرها “مركز روابط” على موقعه الإلكتروني، في 23 مارس 2021، نقلًا عن دراسة حول “العراق في الاستراتيجية الروسية”، فإن إجمالي استثمارات روسيا في قطاع الطاقة العراقي بلغ 10 مليارات دولار في عام 2019، وتعهدت موسكو، في العام التالي 2020، بمُضاعفة هذا الرقم ثلاث مرات على الأقل. لذلك، لم يكن مُفاجئًا أن شركة النفط الروسية “لوك أويل” قد أعلنت، في الربع الثالث من عام 2020، تحقيق أرباح قُدِّرت بـ 50 مليار روبل (نحو 664 مليون دولار)، بفضل ارتفاع أسعار النفط، وزيادة الإنتاج من الحقول التابعة للشركة في العراق، البلد الأكثر أهمية في أنشطة شركات النفط الروسية.

من جانب آخر، التعاون الاقتصادي وتفعيل مذكرات التفاهم المشتركة؛ سبق لروسيا والعراق أن وقّعا عام 2021، مذكرات تفاهم بلغ عددها 14 مذكرة، شملت عدة قطاعات بينها الطاقة والتربية والصحة، جري العمل خلال زيارة لافروف هذه على تفعيلها والعمل بها. وفضلًا عن قطاع الطاقة، يتركز التعاون بين البلدين، حاليًا، على فتح السوق العراقية للشركات الروسية المتخصصة في بناء المحطات الكهربائية والاستكشاف الجيولوجي، وتصدير القمح والمنتجات الزراعية الأخرى.

كما تولي روسيا اهتمامًا لتنويع العلاقات الاقتصادية مع العراق، فيما يتعلق بالاستثمار في مشاريع الطرق والسكك الحديدية، وكذلك استخراج المعادن والهيدروكربونات. وبحسب دراسة أعدها “مركز البيان للدراسات والتخطيط” ونشرها على موقعه الإلكتروني، في العام الماضي 2022، حول “أهداف روسيا ونهجها تجاه العراق”، يبلغ حجم التبادل التجاري بين بغداد وموسكو نحو 1.5 مليار دولار، وتبلغ قيمة صفقات الأسلحة الجارية أكثر من 4 مليارات دولار، ووصلت صادرات روسيا إلى العراق، في عام 2020، إلى 127 مليون دولار.

أبعاد سياسية

اللافت، أن زيارة لافروف إلى العراق لا تتوقف عند حدود الدوافع الاقتصادية وحسب، رغم أهميتها؛ ولكن تتضمن، في الوقت نفسه، أبعادًا سياسية واستراتيجية، سواء بخصوص صفقات التسليح الروسية للعراق، أو ما يتعلق بتفعيل علاقاتها مع المكونات السياسية في الداخل العراقي.

فمن جهة، التنسيق السياسي وتعزيز صفقات التسليح؛ أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية، أن الجانبين، العراقي والروسي، سيبحثان جملة من القضايا والملفات، التي تتصل بطبيعة العلاقات الثنائية، مؤكدا أن الزيارة تأتي “لبحث أهم التطورات على مستوى المنطقة، واستشراف الرؤى المشتركة وإيجاد مُقاربات أساسية بين بغداد وموسكو، حول أهم التحديات التي ينبغي العمل عليها بشكل مشترك”؛ بما يعني التنسيق السياسي حول الملفات التي تحتاج إلى تقارب في الرؤى ومواقف على المستويين الدولي والإقليمي.

وبخصوص صفقات التسليح، فقد تسارعت الجهود الروسية في هذا المجال، بدءًا من عام 2014، عندما احتاج العراق إلى مساعدة فورية في محاربة تنظيم “داعش”، وحين أخَّرت واشنطن المساعدة العسكرية؛ حينئذ.. بلغت قيمة الواردات العسكرية العراقية من روسيا 1.7 مليار دولار، بحسب ما ورد في موقع “مركز روابط”. ومنذ أكثر من عام، أعلن وزير الخارجية الروسي، خلال مؤتمر صحافي له مع نظيره العراقي، في نوفمبر 2021، عن استعداد موسكو لتلبية “أي طلب ستتلقاه من قِبل العراق، في مجال التسليح”، منوهًا إلى أن “روسيا كانت ولاتزال تلعب دورًا بالغ الأهمية في ضمان القدرات الدفاعية للعراق، وتسليح جيشه وأجهزته الأمنية”.

من جهة أخرى، تفعيل العلاقات الروسية مع مكونات الداخل العراقي؛ كان عام 2015، عاما محوريًا على طريق المحاولة الروسية في استعادة نفوذها، ليس في العراق وحده، ولكن بالنسبة إلى الشرق الأوسط ككل. ففي ذلك العام، تدخَّلت موسكو في الحرب الأهلية السورية، ونجحت في إنقاذ النظام السوري من السقوط، على عكس ما حدث في ليبيا. ومنذ ذلك الحين شرعت موسكو في إعادة بناء نفوذها في العراق.

في البداية، قدَّمت روسيا نفسها بوصفها داعما بديلًا للأكراد العراقيين، عوضًا عن الحليف الأمريكي المتردد، وبدأت في ترسيخ وجودها في إقليم كردستان العراق، عبر ضخ الاستثمارات في مجال الطاقة. وبالتزامن مع ذلك، شرعت في إقامة علاقات مع الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، في بغداد؛ وأكثر من ذلك، اغتنمت روسيا الفزع العالمي الذي أثاره صعود تنظيم “داعش”، لتقدم نفسها للحكومة العراقية بوصفها شريكًا موثوقًا في مكافحة الإرهاب، لتنجح في إقناعها بالانضمام إلى مركز معلومات رباعي، ضمَّ موسكو وبغداد ودمشق وطهران، بهدف مطاردة التنظيم وتصفية فلوله. وبالتالي، تأتي زيارة لافروف هذه، لتُؤكد تفعيل العلاقات الروسية مع المكونات السياسية في الداخل العراقي.

تقوية النفوذ

في هذا السياق، يمكن القول بأنه من المبكر جدًا توقع أن تستعيد روسيا كامل نفوذها السابق، قبل 1991، في العراق، أو إمكانية أن تستطيع إزاحة الدور الأمريكي فيه، أو حتى منافسة الدور الإيراني؛ ولكن، يبدو أن روسيا، بدلًا من ذلك، تحاول “تقوية نفوذها” عبر القطاعات الاقتصادية العراقية الرئيسية، خاصة في مجالات الطاقة والتسليح. أيضًا، تحاول اللعب على وتر دعم القوى المناوئة للوجود الأمريكي في العراق، خاصة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.

وحتى في الوقت الذي تواجه فيه روسيا منافسة، فقد أدركت أهمية الصراع الجغراسياسي بالنسبة إلى العراق، في وقت يبدو فيه التزام واشنطن تجاه العراق متأرجحًا؛ هذا، في الوقت الذي لا تُظهِر فيه موسكو أي إشارات للانفصال عن إيران، رغم الاختلافات التاكتيكة، لدورها المُتنفذ في العراق.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock