في 14 مايو الجاري، دخل اتفاق تجاري مؤقت بين الولايات المتحدة والصين حيز التنفيذ، يقضي الاتفاق بتعليق الرسوم الجمركية المتبادلة لمدة 90 يوما. يأتي هذا الاتفاق في سياق تصعيد حاد في الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث فرضت واشنطن رسوما جمركية تصل إلى 145% على الواردات الصينية، وردّت بكين برفع الرسوم على السلع الأمريكية إلى 125%. وبهذا الاتفاق، تتراجع رسوم الولايات المتحدة على الواردات الصينية إلى 30%، بينما تتراجع رسوم الصين على السلع الأمريكية إلى 10% فقط.
هذا التوتر التجاري، الذي تبدى بوضوح، منذ أن وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لا يقتصر تأثيره على البلدين وحسب، بل يمتد ليشمل الاقتصاد العالمي بأسره، بما في ذلك المنطقة العربية، التي تتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بهذه التطورات.
تداعيات محتملة
منذ عام 2018، شهد العالم حربا تجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث فرضت واشنطن رسوما جمركية على سلع صينية بقيمة 360 مليار دولار، وردت بكين بإجراءات مماثلة. أدت هذه الحرب إلى اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، وارتفاع التكاليف على المستهلكين والشركات.
الاتفاق الحالي يمثل هدنة مؤقتة، حيث وافقت الصين على زيادة مشترياتها من المنتجات الأمريكية، بينما علّقت الولايات المتحدة بعض الرسوم الجمركية. ورغم أن الاتفاق محدود المدة (90 يوما)، إلا أنه قد يمهد الطريق لمفاوضات أوسع.
أما بالنسبة إلى المنطقة العربية، فإن العلاقة بين الاقتصادات العربية من جهة، والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، تتسم بقدرٍ عالٍ من التشابك والتعقيد، سواء في مجالات التجارة، أو الاستثمارات، أو التكنولوجيا، أو الطاقة. لذا فإن أي توتر بين بكين وواشنطن، أو انفتاح مؤقت كالذي جاء بموجب الاتفاق الأخير، لا يمكن أن يمر دون أن تكون له ارتدادات حادة أو دقيقة على المنطقة العربية. ويمكن أن نُفصل هذه التداعيات، من المنظور الاقتصادي، في المحاور التالية:
1 – انكشاف الأسواق العربية على الصدمات:
فالعديد من الاقتصادات العربية، وخاصةً في دول الخليج ومصر والمغرب، أصبحت جزءا من سلاسل التوريد العالمية، سواء من خلال تصدير المواد الخام أو استيراد المكونات الصناعية. في سياق الصراع التجاري، يصبح هذا الانكشاف عبئا. وعندما تهتز العلاقة بين العملاقين، فإن المصانع العربية التي تعتمد على التكنولوجيا أو الأجزاء الصينية، قد تواجه تأخيرات أو زيادات في الأسعار، ما ينعكس على القدرة التنافسية للمنتج العربي في الأسواق المحلية والخارجية.
على سبيل المثال، مصانع الإلكترونيات في مصر والمغرب، والتي تعتمد على المكونات الصينية قد تتأثر بارتفاع كلفة المدخلات، أيضا شركات النقل والخدمات اللوجستية في دبي، قد تواجه تقلبات في حركة الشحن والأسعار نتيجة اضطرابات سلاسل التوريد الآسيوية الأمريكية.
2– الضرر على الصادرات العربية لأمريكا:
وفقا لتقارير “الإسكوا”، فإن صادرات عربية غير نفطية، بقيمة 22 مليار دولار، مهددة بفعل الرسوم الجمركية الأمريكية، في حال خروج الاتفاق التجاري عن مساره المؤقت. الدول العربية المتضررة بالدرجة الأولى، هي تلك التي تربطها اتفاقيات تجارة تفضيلية مع الولايات المتحدة، مثل: المغرب، في صادرات المنسوجات والفوسفات؛ والأردن، في منتجات الأدوية والملابس؛ ومصر، في الصناعات الزراعية والمنسوجات؛ ولبنان وتونس، في منتجات غذائية وزراعية.
وبالتالي، إذا لم يمدد تعليق الرسوم، أو إذا اشتدت المواجهة مجددا، فإن هذه الدول ستفقد تنافسيتها في السوق الأمريكية لصالح دول أخرى (دول أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا).
3– تحديات التمويل وفراغ استثماري محتمل:
لعل أحد الآثار غير المباشرة، يتمثل في عزوف المستثمرين العالميين عن ضخ أموالهم في الأسواق الناشئة (ومنها العربية)، عندما يشتد الصراع التجاري؛ فالتقلبات العالمية تدفع صناديق الاستثمار نحو الملاذات الآمنة. دول عربية كانت تأمل في جذب استثمارات من الشركات متعددة الجنسيات، التي رحلت عن الصين، قد تفشل في ذلك إذا عاد التوتر وتراجعت ثقة المستثمرين بالمشهد التجاري العالمي.
وهذا ينطبق على مشاريع مثل: منطقة قناة السويس الاقتصادية في مصر، والمنطقة الصناعية الصينية في عُمان، والاستثمارات في الصناعات التحويلية بالمغرب والأردن.
4 – التاثير المزدوج على الطاقة وأسواق النفط:
التقلبات في العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين، باعتبارهما أكبر مستوردَين للنفط في العالم، تؤثر مباشرة على الطلب العالمي بالنسبة لهذه السلعة. لذا، أي تباطؤ في النمو الصيني أو الأمريكي، سيؤدي إلى انخفاض في الطلب على الطاقة، ومن ثم تراجع أسعار النفط. هذا يؤثر بشكل خاص على كل من السعودية، العراق، الإمارات، الجزائر، الكويت. والانخفاض المحتمل في عوائد النفط سيؤثر على خطط التنويع الاقتصادي، التي تعتمد على الإنفاق العام، مثل “رؤية السعودية 2030″، أو مشاريع الإمارات الخضراء.
لكن من جانب آخر، قد يفتح الصراع التجاري الباب أمام إعادة هيكلة تدفقات النفط، كأن تعزز الصين وارداتها من النفط العربي، لتعويض النقص الأمريكي أو الأفريقي، ما يخلق فرصا قصيرة الأجل لبعض المنتجين العرب.
5 – مخاطر في التكنولوجيا والتحول الرقمي:
العديد من الدول العربية دخلت في شراكات مع الصين في مجالات الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس (G5)، وتكنولوجيا المراقبة والمدن الذكية. هذه الشراكات قد تتأثر حال قررت واشنطن توسيع القيود على التعاون التكنولوجي مع الصين ليشمل حلفاءها، أو تضغط على الدول العربية لإعادة النظر في تعاقداتها مع شركات مثل “هواوي” و “ZTE”.
دولا مثل الإمارات والسعودية تواجهان ضغوطا أمريكية، بسبب تعاونهما مع شركات تكنولوجيا صينية. أما مصر وقطر فهما تعتمدان على بنى تحتية رقمية طورتها بكين، ما يجعل قطاع الاتصالات عُرضة للتوترات الجيوسياسية.
6 – صعود محتمل لبعض الأدوار العربية:
في ظل بحث بعض الشركات العالمية عن بدائل للصين، في حال تصاعد الصراع التجاري بينها وبين الولايات المتحدة، من جديد، هناك احتمال أن تستفيد بعض الدول العربية كمراكز إنتاج بديلة منخفضة التكلفة نسبيا، خاصة تلك القريبة جغرافيًا من أوروبا، أو التي تمتلك اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
المغرب، كمثال، مؤهل لاستضافة مصانع السيارات وقطع الغيار بدلا من آسيا؛ مصر، كمثال آخر، قد تجذب الصناعات النسيجية والإلكترونية الخفيفة؛ الأردن، كمثال أخير، خيار استثماري لوجستي قريب من الخليج. لكن هذه الفرصة تتطلب إصلاحات جذرية في بيئة الأعمال والبنية التحتية، ومرونة تنظيمية وسرعة في اتخاذ القرار.
7 – تعميق فجوة بعض الاقتصادات العربية:
ليس كل الدول العربية تقف على ذات الأرضية؛ فالدول ذات الاقتصادات المتنوعة والانفتاح التجاري الأوسع (مثل: الإمارات، المغرب، مصر)، قد تتمكن من التكيّف أو الاستفادة. أما الدول التي تعتمد بشكل أساسي على النفط أو المساعدات (مثل: ليبيا، السودان، اليمن، الجزائر)، فقد تتعرض لضغوط تضخمية ومالية، نتيجة تقلب أسعار السلع والطلب العالمي الضعيف.
في هذا الإطار.. لا يمكن النظر إلى الاتفاق التجاري الأمريكي الصيني الأخير على أنه شأنا ثنائيا بحتا، بل هو حلقة ضمن سلسلة من التفاعلات الاقتصادية التي تؤثر على العالم، والمنطقة العربية في القلب منه. التداعيات متنوعة ومعقدة، وقد تحمل فرصا واعدة للدول التي تستعد وتتكيف بسرعة، كما قد تفرض تحديات وجودية على الدول الأقل مرونة.
في نهاية المطاف، فإن قدرة المنطقة على امتصاص الصدمة، واستثمار التحولات العالمية، مرهونة بأمرين: الشجاعة في الإصلاح، والوعي بموازين القوى المتغيرة.