رؤى

قواعد عسكرية تركية في سوريا.. دوافع وتداعيات

في خطوة تُعدّ من أبرز التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط منذ سنوات، تتجه تركيا إلى إنشاء قاعدتين عسكريتين في سوريا؛ إحداهما جوية في قاعدة (T4)، بمحافظة حمص؛ والأخرى بحرية في موقع لم يُعلن عنه بعد. تأتي هذه الخطوة بعد لقاء جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في إسطنبول، يوم السبت 24 مايو الجاري.

ولعل هذا التطور يعكس تحوّلا استراتيجيا في العلاقات بين أنقرة ودمشق؛ إذ إن هذه الخطوة إذا ما تحققت، ستكون لها تداعيات كبيرة على الأمن الإقليمي، وعلى العلاقات التركية السورية، وكذلك على موازين القوى في المنطقة. ومن ثم، فإنها تثير تساؤلات حول دوافع تركيا، وتداعيات هذه الخطوة، والاحتمالات المستقبلية المرتبطة بها.

دوافع تركيا

تتعدد الدوافع التركية لإنشاء قاعدتين عسكريتين في سوريا، على أكثر من جانب.. منها تعزيز النفوذ الاستراتيجي في شمال سوريا؛ إذ إن تركيا لديها تاريخ طويل من التدخل العسكري في سوريا، بدءا من عملية “درع الفرات” في 2016، مرورا بعمليات “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، ووصولا إلى الوجود العسكري الحالي في إدلب ومناطق حدودية أخرى. ومنذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، في 8 ديسمبر 2024، تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في سوريا، مستفيدةً من الفراغ الذي خلّفه انسحاب إيران وتراجع الدور الروسي.

وتطمح أنقرة إلى لعب دور محوري، في إعادة تشكيل المشهد السياسي والعسكري السوري، خاصةً في ظل تحالفها الطويل مع المعارضة السورية؛ والأهم، أن إنشاء قواعد دائمة؛ يعني ترسيخ الوجود التركي عسكريا وسياسيا، ما يعزز نفوذ أنقرة في أي مفاوضات مستقبلية حول مستقبل سوريا.

من جانب آخر، مواجهة التهديدات الأمنية الكردية؛ حيث تعتبر تركيا وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تصنّفه أنقرة ، منظمة إرهابية.

من خلال إنشاء قواعد عسكرية في وسط سوريا، تسعى أنقرة إلى مراقبة وتحجيم النفوذ الكردي في الشمال الشرقي، ومنع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية؛ فضلا عن إمكانية شن عمليات استباقية ضد أي تحركات كردية تحمل تهديدات لتركيا.

من جانب أخير، محاولة تحقيق التوازن الإقليمي؛ من خلال سعي تركيا إلى تحقيق توازن في علاقاتها الإقليمية، خاصةً مع الولايات المتحدة وروسيا. عبر تعزيز وجودها العسكري في سوريا، تأمل أنقرة في تقوية موقفها التفاوضي مع القوى الكبرى، والحصول على دعم أكبر في ملفات أخرى، مثل الحصول على طائرات “إف-35” الأمريكية.

أضف إلى ذلك، موازنة النفوذ الروسي والإيراني في سوريا؛ من حيث إن روسيا وإيران لاعبان مهمان في سوريا؛ لذا تسعى تركيا لتعزيز موقفها بوصفها طرفا لا يمكن تجاوزه. وجود قواعد تركية دائمة سيعيد رسم تحالفات الإقليم، وقد يدفع موسكو وطهران إلى إعادة تقييم تعاونهما مع أنقرة.

تداعيات متوقعة

ضمن أهم التداعيات المتوقعة، جرّاء قيام تركيا بإنشاء قاعدتين عسكريتين في سوريا.. يأتي توتر العلاقات مع إسرائيل؛ حيث أثارت الخطط التركية بخصوص إنشاء القواعد العسكرية قلقا كبيرا في إسرائيل، التي تعتبر ذلك تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وقد صرّح مسئولون إسرائيليون بأن وجود تركيا العسكري في سوريا؛ قد يقوّض حرية العمليات الجوية الإسرائيلية، خاصةً في ظل نشر أنظمة دفاع جوي متقدمة. ولكن -كما يبدو- فقد توصّل الجانبان، الإسرائيلي والتركي، من خلال مباحثات في أذربيجان، إلى آلية لمنع الصدام، وتجنب الحوادث غير المرغوب فيها على الأراضي السورية.

من جهة أخرى، تعقيد العلاقات مع روسيا؛ إذ بالرغم من التنسيق السابق بين أنقرة وموسكو، في الملف السوري، فإن التوسع التركي في سوريا قد يؤدي إلى توتر العلاقات بين البلدين. تجري روسيا محادثات مع الحكومة السورية الجديدة بشأن مستقبل قواعدها العسكرية في طرطوس واللاذقية، وقد ترى في التحركات التركية تهديدا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة عموما، وفي سوريا بوجه خاص.

من جهة أخيرة، تتبدى ردود الفعل العربية متباينة تجاه التحركات التركية؛ فبينما قد ترحب بعض الدول بتعزيز الاستقرار في سوريا، قد ترى دول أخرى في التوسع التركي تهديدا لنفوذها في المنطقة، خاصةً في ظل التنافس الإقليمي بين تركيا وبعض الدول الخليجية.

أضف إلى ذلك، أن المنظمات الكردية سوف تشعر بالخطر؛ ومن ثم، هناك احتمال أن تزيد من تحركاتها العسكرية، أو تطلب دعما أمريكيا إضافيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية.. فقد تعتبر هذه الخطوة تحديا لنفوذها، خاصةً إذا هددت القواعد التركية ، القوات الأمريكية في شرق سوريا؛ اللهم، إلا إذا كانت تركيا قد حصلت على الضوء الأخضر من واشنطن بشأن قواعدها المستقبلية هناك.

تحديات محتملة

بالطبع، فإن الخطوة التركية سوف تواجه بعددٍ من التحديات المستقبلية، المحتملة؛ ويأتي في مقدمتها التحديات الداخلية في سوريا. إذ على الرغم من الدعم التركي، فقد تواجه الحكومة السورية الجديدة تحديات داخلية، خاصةً في ظل تعدد الفصائل المسلحة واختلاف الأجندات بالنسبة إلى كل فصيل منها. وقد يؤدي ذلك إلى صعوبات في توحيد “الجيش السوري الجديد”، وضمان ولائه الكامل للسلطة المركزية.

هذا، فضلا عن أن التحركات التركية، على المستوى الإقليمي، قد تؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، فقد تسعى دول في المنطقة إلى تعزيز تعاونها مع تركيا، بينما قد تتجه دول أخرى إلى تشكيل تحالفات مضادة لموازنة النفوذ التركي المتزايد.

في هذا الإطار.. فإن إنشاء تركيا لقاعدتين عسكريتين في سوريا ليس قرارا عسكريا فحسب، بل خطوة استراتيجية ذات أبعاد سياسية وأمنية عميقة. دوافع أنقرة متعددة، من تعزيز النفوذ إلى مواجهة التهديدات الكردية، لكن التداعيات قد تكون كبيرة على الاستقرار الإقليمي. ومن الواضح أن مستقبل الخطوة التركية، سيتحدد وفقا لتفاعل الأطراف الإقليميين والدوليين، وقدرة تركيا على تحقيق أهدافها دون إثارة حرب جديدة. في كل الأحوال، سوف تبقى سوريا ساحة صراع مصالح تتشابك فيها الأجندات المحلية والدولية، مما يجعل مصيرها مرتبطا بتوازنات القوى المتغيرة في المنطقة.

 

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock