رؤى

دروز سوريا.. أبعاد إقليمية وتداعيات مستقبلية

منذ الإعلان عن السلطة الانتقالية في سوريا، تلك التي يقودها الرئيس المؤقت أحمد الشرع، برزت الطائفة الدرزية، المتمركزة أساسا في محافظة السويداء جنوب سوريا، بوصفها مكونا رئيسا يعيد ترتيب أوراقه السياسية والاجتماعية في المرحلة الحالية؛ لكن العلاقة بين الطرفين (الدروز والسلطة الانتقالية) لم تخلُ من توتر متصاعد، تغذيه عوامل داخلية ذات طابع طائفي وسياسي، وتتداخل فيه مصالح إقليمية معقّدة. فالجنوب السوري لم يكن يوما مجرد مساحة جغرافية معزولة، بل هو تقاطع لمصالح أردنية إسرائيلية إيرانية وروسية؛ فضلا عن كونه منطقة لها رمزية خاصة للطائفة الدرزية، ذات الامتداد الإقليمي في لبنان وفلسطين.

فما العوامل التي تقف خلف التوترات بين الطائفة الدرزية والسلطات الانتقالية، وما أبعاد هذه الأزمة في السياق الإقليمي؛ والأهم، ما التداعيات المستقبلية المحتملة؟

عوامل التوتر

تتعدد العوامل الدافعة إلى التوتر في الجنوب السوري، ما بين تعاظم الحس لدى الدروز بالخصوصية، والقلق من مشاريع الهيمنة الجديدة؛ فضلا عن الإرث التاريخي للطائفة الدرزية، في محاولة الحفاظ على التوازن مع الدولة السورية.

فمن جانب، يأتي الإرث التاريخي للدروز، في الحفاظ على موقع متوازن بين الولاء للدولة المركزية من جهة، والسعي إلى نوع من الحكم الذاتي الواقعي من جهة أخرى. في عهد حافظ الأسد، استوعبت الزعامات الدرزية ضمن النظام الأمني الحزبي، خاصةً في عهد اللواء فؤاد العطّار، ثم لاحقا تحت مظلة وليد جنبلاط من الخارج.

أما في ظل بشار الأسد، تراجعت الثقة بين الطرفين، لا سيما مع تكرار عمليات القمع والتمييز ضد شباب السويداء، وترك المنطقة دون تنمية حقيقية أو أمن.

من جانب آخر، يأتي تعاظم الحس بالخصوصية لدى الدروز في سوريا. ففي أثناء سنوات الأزمة السورية، حرصت الطائفة الدرزية على عدم الانخراط العميق في الصراع الطائفي، رغم الضغوط. فقد شكلت شبكات الدفاع المحلي، وأحجمت عن إرسال أبنائها إلى جبهات النظام؛ كما رفضت -في معظم الأحيان- الانضمام لفصائل المعارضة المسلحة. هذا الموقف زاد من عزلة السويداء، وعزّز شعورا داخليا بضرورة “الخصوصية السياسية”. ومن هنا، فإن أي سلطة انتقالية لا تقدّر هذه الحساسية، ستواجه ببرود أو مقاومة.

من جانب أخير، يتبدى القلق لدى الدروز من مشاريع الهيمنة الجديدة؛ إذ إن الإعلان عن حكومة انتقالية من دون مشاورات واضحة مع قيادات دينية ومجتمعية درزية، أثار مخاوف من إعادة إنتاج مركزية تهمّش السويداء مجددا. وقد عبّر عدد من شيوخ العقل والمجالس المحلية عن شكوكهم حيال النوايا الحقيقية للقيادة الانتقالية، لا سيما في ما يتعلق بمصير السلاح المحلي، والتجنيد، وتوزيع الموارد.

أبعاد إقليمية

مثلما تتعدد العوامل الداخلية الدافعة إلى التوتر في الجنوب السوري عموما، وفي مناطق الدروز بوجه خاص؛ تتعدد أيضا الأبعاد الإقليمية لهذا التوتر.

من جهة، الدخول الإسرائيلي على خط الصراع في الداخل السوري، بحجة حماية الدروز؛ فإسرائيل تراقب باهتمام بالغ ما يجري في السويداء، انطلاقا من اعتبارات أمنية واستراتيجية. فهي تنظر إلى دروز سوريا بوصفهم امتدادا لمجتمعها الدرزي في الجولان والجليل. وقد رصدت تقارير متعددة دعما إسرائيليا غير مباشر لبعض الفاعلين المحليين في السويداء، سواء عبر قنوات إنسانية، أو عبر الاتصالات غير الرسمية لتجنب اقتراب قوى معادية لإسرائيل من الحدود.

ومن ثم، فالتوتر بين الدروز والسلطة الانتقالية يخلق فرصة لإسرائيل لتعزيز “علاقتها الوقائية”، مع طائفة يمكن أن تُشكّل حزام أمان في جنوب سوريا. وهذا ما قد يثير توجس كل من السلطة الانتقالية وإيران على حد سواء.

من جهة أخرى، تأتي المخاوف الأردنية من انفلات الجنوب السوري؛ إذ إن الأردن الذي يشترك مع السويداء في حدود تمتد لأكثر من 60 كيلومترا، يخشى من أن تؤدي هذه التوترات إلى فراغ أمني، تستغله عصابات التهريب أو المليشيات المدعومة من إيران. وقد عبّرت عمان أكثر من مرة عن قلقها من ضعف سيطرة الدولة السورية على الجنوب، ورفضت دخول أي تشكيل غير منضبط بالقرب من حدودها. وبالتالي، فأي تعقيد في علاقة السلطة الانتقالية مع السويداء سيعني بالنسبة للأردن تأخيرا في تحقيق استقرار جنوب سوريا، وهو أمر يرتبط بالأمن الأردني الداخلي، خاصةً في ظل هشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي في المملكة.

من جهة ثالثة، يتبدّى الدور الإيراني في إثارة التوتر بين الدروز والسلطة الانتقالية؛ حيث تنظر إيران بعين الريبة إلى أي محاولة لفك ارتباط الجنوب السوري عن المحور الممتد من طهران إلى بيروت. وتعتبر أن تراجع نفوذها في السويداء سيؤدي إلى تصدع “الهلال الشيعي”. لذلك فهي تدعم أحيانا فصائل مسلحة قريبة من مدينة درعا لتأمين موطئ قدم، وتسعى إلى تجنيد عناصر درزية ضمن تشكيلات موالية لها، رغم رفض المجتمع الدرزي عموما لهذه المحاولات. ومن ثم، فإن التوتر الحالي يوفر فرصة لإيران للظهور حاميةً للطائفة، خصوصا إذا فشلت السلطة الانتقالية في بناء علاقة ثقة مع القيادات المحلية. وقد تستغل طهران هذا الوضع لتعطيل مشروع الانتقال السياسي.

من جهة أخيرة، تأتي محاولات الوساطة الروسية؛ حيث تحاول روسيا لعب دور الوسيط بين السلطة الانتقالية والمجتمع الدرزي، نظرا لعلاقتها التاريخية مع السويداء، وحرصها على تأمين الجنوب بوصفه منطقة “معتدلة” بعيدة عن السيطرة الإيرانية أو التركية. لكنها لا تملك قدرة واسعة على فرض حلول، وتوازن موقفها بعناية بين دعم السلطة الانتقالية والحفاظ على علاقة مرنة مع الدروز؛ تفاديا لأي مواجهة تؤثر على مصالحها العسكرية في قاعدة حميميم أو على مشروعها للمشاركة في إعادة الإعمار.

تداعيات مستقبلية

لعل أهم التداعيات المحتملة، في المستقبل القريب، هي تلك التي تتأرجح بين سيناريو الفوضى والتدخلات الخارجية في الجنوب السوري، وبين تحول السويداء إلى “منطقة خاصة”.

بالنسبة لهذا الاحتمال الأخير، فهو احتمال يمكن أن يتحقق بحكم الأمر الواقع؛ ففي حال استمرار التوتر، قد تسير السويداء باتجاه ترسيخ شكل من أشكال الحكم المحلي شبه المستقل، شبيه بتجربة الإدارة الذاتية الكردية في الشمال الشرقي. قد لا يُعلَن ذلك رسميا، لكنه سيتجسد فعليا من خلال مؤسسات محلية وقوى أمنية ذات طابع درزي صرف، ترفض الاندماج في الجيش الوطني أو أجهزة السلطة الانتقالية. سيؤدي هذا إلى تعقيد وحدة الدولة في مرحلة ما بعد الأسد، ويهدد بتشظي الخريطة السورية أكثر.

أما بالنسبة إلى الاحتمال الآخر، نعني سيناريو الفوضى والتدخلات الخارجية؛ فإن غياب التفاهم مع السويداء قد يفتح الباب أمام تدخلات مباشرة من قوى خارجية، تحت غطاء إنساني أو أمني. إسرائيل قد تتوسع في دعمها غير المباشر، إيران قد تستغل الموقف لتبرير وجود فصائل شيعية، والأردن قد يضطر للتنسيق الأمني المباشر مع فاعلين محليين. هذه الحالة قد تتحوّل إلى بؤرة صراع إقليمي مُصغّر، يُضاف إلى مشكلات الشمال الشرقي وإدلب.

في هذا الإطار.. يمكن القول بأن العلاقة بين الطائفة الدرزية والسلطة الانتقالية في سوريا تسير على حافة هاوية سياسية؛ فأي مشروع انتقالي لا يضمن احترام الخصوصيات الثقافية، ولا يفتح قنوات تفاوض شاملة مع كل المكونات، هو مشروع محفوف بالانتكاس، إن عاجلا أو آجلا. كما أن تجاهل الأبعاد الإقليمية المعقدة، بدءا من الحدود الأردنية وحتى حسابات إسرائيل وإيران، يعني المخاطرة باستمرار سوريا رُقعةً جغرافية بلا سيادة موحدة.

وبكلمة، إن تاريخ السويداء المليء بالحكمة السياسية والتمردات النبيلة، من سلطان باشا الأطرش إلى انتفاضات ما بعد 2011، يؤكد أن هذه المنطقة لن تكون سهلة الاحتواء، ولن تقبل بالتهميش بعد اليوم. فإذا لم تُبْنَ الثقة الآن، فإن التوتر المحلي في الجنوب السوري قد يتحوّل إلى مأزق إقليمي بما له من آثار وخيمة على مستقبل الدولة السورية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock