يعد الشيخ محمد رشيد رضا أحد أكثر مفكري مرحلة النهضة العربية تأثيرا وجدلا، فبينما يصفه مؤيدوه بأنه كان واحدًا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في مطلع القرن العشرين، وعملوا على النهوض بأمتهم؛ يصفه خصومه بأنه «الأب الروحي» لتيار الإسلام السياسي الذي ارتبط ظهوره بظهور جماعة الإخوان المسلمين- نتيجة تتلمذ حسن البنا على يديه في مدرسة المنار.
كما يحمّله كثيرون مسؤولية انحراف مسار النهضة العربية من الاتجاه العلمي والعقلي، والذي عرف كيف يتعاطى مع منجزات الحضارات الأخرى مع الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية، إلى الردة والتقوقع واشغال الامة في نزاع حول الهوية، عبر استدعاء روح الصراع بين الاتجاهات والتيارات الثقافية داخل ثقافتنا العربية من ناحية، وتجاه الحضارة الغربية ومستشرقيها من ناحية أخرى.
ورغم ذلك يبقى الأخطر- من وجهة نظرنا – هو تلك السطوة والوصاية التي استطاع رشيد رضا يفرضها على تراث الشيخ الإمام محمد عبده، فهو كان يقدم نفسه باعتباره تلميذا للشيخ، لكنه حينما قام بتقديم تراث محمد عبده قام بإعادة شخصيته وفق معطياته وآرائه الخاصة، إلى حد وصل فيه إلى بإخفاء أجزاء من نصوصه وإدعاء توبته عنها، وإلى الحد الذي توارت فيه أسماء أكثر أهمية من رشيد رضا، وأكثر تأثيرا في الحياة والثقافة العربية من تلاميذ الإمام مثل: علي عبدالرازق، و أحمد لطفي السيد، وطلعت حرب، ومحمد حسين هيكل.
أما الحضور القوي الذي مثلّه رشيد رضا، فكان نجاحه في صناعة أتباع حركيين ومؤثرين ك«جماعة الإخوان المسلمين»، التي يرفض أتباعها إلى الآن الربط بين الإمام محمد عبده وأي من أصحاب التيارات الليبرالية أو العلمية، بحيث يبقى شيخهم رشيد رضا- في التصور العام- هو تلميذه الأول والأخير.
محمد عبده ورشيد رضا
الدكتور «عصمت حسين»
حول هذه الأفكار وغيرها كان هذا الحوار لموقع «أصوات أونلاين» مع الدكتور عصمت حسين نصار أستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وأحد أهم الباحثين المختصين في دراسة الفكر العربي في عصر النهضة، والذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات عن هذا الموضوع، من بينها (ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد)، و(فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى)، (أحمد فارس الشدياق)، (حقيقة الأصولية الإسلامية)، (فلسفة محمد إقبال) وغيرها عشرات المؤلفات، فإلى نص الحوار:
متى نشأة علاقة محمد رشيد رضا بالإمام محمد عبده ؟ وما هي طبيعة تلك العلاقة؟
-نشأت هذه العلاقة بعد قدوم رشيد رضا من بلاد الشام إلى القاهرة عام 1898، وقيل إنه كان على المركب ذاتها التى كانت تحمل فرح أنطون(صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي لبناني هاجر إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر واستقر بها وعرف عنه كتاباته الفلسفية ودفاعه عن ابن رشد )، وقد تواكب هذا مع عودة الامام محمد عبده من المنفى عقب الاتفاق الذى توصل اليه مع المندوب السامي للاحتلال البريطاني “اللورد كرومر” بوساطة من الأميرة نازلى فاضل.
وقد بدأ الامام بإلقاء دروسه في حلقات العلم التي كان يلقيها على تلاميذه في بيته وفى دار الافتاء وفى المساجد.
كان رشيد رضا حينها واحدا من رواد تلك الدروس، وقد بدأ فى تأسيس مجلة «المنار» فى الوقت ذاته الذى كان فرح انطون يؤسس فيه مجلته الخاصة(مجلة الجامعة)، كان رشيد رضا حينها قد تعرف على الإمام محمد عبده أثناء نفيه في بلاد الشام، سواء من خلال لقاءات شخصية أو من خلال مؤلفاته، وقد توطدت العلاقة بينهما حين بدأ فرح انطون يكتب مقالات يتهم فيها الإسلام بأنه دين مناف للعلم والمدنية، فاستكتب رشيد رضا الاستاذ الإمام فى مجلة المنار للرد على فرح انطون، وقد لقي ذلك قبول واستحسان الإمام محمد عبده، الذى استطاع الرد على مهاجمى الاسلام مثل (هانوتو)، وقد بدأ في نشر مقالات في «المنار» تحت عنوان «الإسلام والنصرانية»، ثم مجموعة مقالات تحت عنوان «دين العلم والايمان»، ثم أخر المساجلات حول ابن رشد.
وقد تحققت للشيخ رشيد رضا بذلك بعض المكاسب، فقد جعل الإمام من مجلة «المنار» منبرا قويا، وجذب اليها عددا كبيرا من القراء، كما أن هذا كان يكفيه مؤنة الخصومة مع أمثال فرح انطون.
علاقة غير وطيدة
ولكن حتى ذلك الحين لم تكن العلاقة بين رشيد رضا ومحمد عبده علاقة وطيدة، بل كانت أقرب إلى المصالح المتبادلة وليست علاقة تلمذة كالتى كانت بين محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق مثلا، الذى عرف الإمام وصحبه قبل منفاه، وكانت العلاقة بينهما علاقة أسرية.
* كيف تكونت لرشيد رضا تلك السطة على تراث الاستاذ الامام؟
– لأنه كان أول من قام باستكتابه، ففى الوقت الذى كان خصوم الإمام محمد عبده يهاجمونه في مجلات أخرى، كمجلة «حمارة منيتي» الساخرة والتي لفقت صورة للإمام بصحبة عدة سيدات اجنبيات، تمسك أحداهن كلب بيديها، كانت مجلة «المنار» أول من دافع عن الامام فرأى فيها فرصة للدفاع عن نفسه وعرض أراءه ونشرها.
وقد بدأت العديد من الصفقات للمنار مع الأستاذ الإمام مثل تفسير الإمام للقرآن، الذى أطلق عليه رشيد رضا تفسير المنار، كذلك تاريخ الأستاذ الامام الذى كان عبارة عن مجموعة مقالات أملاها الإمام على رشيد رضا، فلم يكن بإمكان رشيد رضا جمع تاريخ الشيخ أو رصده، لأن تاريخ العلاقة بينهما لم يتجاوز السنوات الست منذ قدومه الى القاهرة وحتى وفاة الشيخ محمد عبده.
* كيف تأثرت شخصية رشيد رضا بعلاقته بالشيخ محمد عبده؟
كان للإمام بعض الأثر في شخصية -رشيد رضا، فقد كان رشيد رضا قبل تعرفه على الإمام يهاجم حرية المرأة، ولكن بعد تعرفه على الإمام دافع عن تعليم المرأة وعن حريتها على الرغم من وجود بعض التحفظات، كذلك خفت حدة عدائه لأصحاب الديانات الأخرى، فأصبح يدافع عن حقوق غير المسلمين فى الدولة الاسلامية، وإن كانت عنده كالومضات الخاطفة عند الصوفية.
ما بين الأفغاني وابن عبد الوهاب
* هل كان رشيد رضا خلوا من الانتماءات المذهبية حين تعرفه على الشيخ محمد عبده؟
-عندما تعرف رشيد رضا على الشيخ محمد عبده كان يتنازعه اتجاهان اثنان: أولهما، اتجاه جمال الدين الأفغاني الذي يدعو إلى التغيير الثورى والتحول المفاجىء، وثانيهما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية الجهادية. فرغم أن الأفغاني لم يكن امتدادا لإبن عبد الوهاب، إلا أن القاسم المشترك بينهما هو الدعوة إلى التغيير الثورى والجهادى، ولكنه عندما تعرف على الإمام أحدث له ذلك نوعا من التوازن، وتعلم منه أهمية الدعوة فى سبيل الإصلاح، لكن فى رأيى أن رشيد رضا لم يستطع التخلص من أفكاره القديمة.
* لم يكن رشيد رضا هو التلميذ الوحيد للشيخ، فهناك تلامذة اخرون ربما يعدهم البعض أكثر قيمة على المستوى الاصلاحى، ورغم ذلك يبقى رشيد رضا هو الأكثر تواجدا والاكثر انتشارا على مستوى القاعدة الشعبية لماذا في رأيك؟
-نعم كان للإمام محمد عبده العديد من التلاميذ، لكنهم جميعا يختلفون نوعا ما عن رشيد رضا، لأن رشيد رضا لم يستفد من الأستاذ الإمام سوى في جانب الاصلاح الديني، وهو ما كوّن له تلك القاعدة الشعبية والجماهيرية الواسعة، فهو من تتلمذ حسن البنا على يديه، وعندما أسس البنا جماعة الاخوان المسلمين أصبح كل اعضاء الجماعة يرون أنفسهم تلامذة غير مباشرين لرشيد رضا.
لكن ليس من اليسير المقارنة بين رشيد رضا وبين باقى تلاميذ الإمام كسعد زغلول، وحفنى ناصف وعلى عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق ومصطفى المراغي، فهناك من بينهم من دعا لفصل الدين عن الدولة، وقد استفاد هذا أيضا من تعاليم الإمام الذى أكد أنه لا كهنوت فى الإسلام، ولا ضرورة لما يسمى بالدولة الدينية، وهناك من أسس استديوهات للسينما ودعم الغناء، وأسس بنك مصر أعنى طلعت حرب باشا، أما رشيد رضا فكان يسعى فقط فى دائرة الاصلاح الدينى، وحتى أنه فى هذا كان يدعي انتماءه لمدرسة الإمام فى الخارج بينما هو من الداخل كان فى غاية الإخلاص للدعوة الوهابية.
تتلمذ على يد محمد عبده وظل وهابيا
*إلى أي حد كان رشيد رضا أمينا على تراث الشيخ وفكره، خصوصا وأنه أخفى من الطبعة الثانية من تاريخ الاستاذ الامام رسالة الواردات الالهية، وهى كما نعلم – رسالة صوفية بحجة أن الاستاذ الامام قد رجع عن مثل تلك الافكار، وانه اهتدى من العقيدة الأشعرية إلى عقيدة السلف؟
-إلى درجة أقل من التلميذ الوفي الأمين، فإذا نظرنا إلى الآراء السياسية لمحمد رشيد رضا نجده أقرب إلى الوهابية، وأراءه الفكرية بعضها يقترب من أراء محمد عبده، يمكننا أن نعتبرها مناصفة بين محمد عبده ومحمد بن عبدالوهاب، وأما عن مسألة ارتداد محمد عبده من العقيدة الأشعرية إلى عقيدة السلف، فهذا أمر أشكك فيه، لأن الإمام محمد عبده لم يكن أشعريا، وانما كان (ماتريدي)، أي أنه كان على مذهب أبى حنيفة فى العبادات وعلى مذهب المعتزلة فى العقائد، وهو فى المجمل لم يكن مخلصا لأفكاره كحال باقى تلاميذ الإمام مثل لطفى السيد والمراغى أو حفنى ناصف.
* هل الصورة التي تقدمها كتابات رشيد رضا عن محمد عبده هي بعينها الصورة التي يخرج بها المتعرف على الإمام من خلال كتاباته الأصلية، أي بدون وساطة رشيد رضا؟
– لا.. فرشيد رضا حاول إبراز محمد عبده كسلفى مقاتل أو مجاهد، أو الرجل الذى حٌورب من الجميع وخرج منتصرا، أعنى أنه حاول إبراز الجانب التراجيدى فى حياة الامام، لكنه لم يستطع أن يقترب بعمق من الجانب الفكري له، في حين أن من يقرأ كتابات مصطفى عبد الرازق، وعبد المنعم حمادة، والمراغى يجدهم يتحدثون عن البعد العقلى والتوجيهى والإصلاحى وتصوير شخصية الإمام كفيلسوف أو حكيم.
وربما يعود ذلك إلى أن رشيد رضا، وإن كان صاحب ديباجة فهو على دراية بالبلاغة والأدب وعلوم القرأن والحديث، لكنه كان مفتقدا للقدرة على التفكير المنهجي والمنظم، وربما يكون هو الذى حاول الباس محمد عبدة تلك العباءة، وإبرازه وفقا لتصوره الشخصى.
*ما الدور الذى لعبه تلاميذ رشيد رضا فى صنع تلك القاعدة الجماهيرية العريضة لرشيد رضا؟
-كان حسن البنا التلميذ النجيب لرشيد رضا ،فهو لم يقدم للفكر المصرى أفضل من حسن البنا، على الرغم من تلمذة حسن البنا على شخص آخر هو عبد العزيز جاويش الذى كان صاحب فكرة الشبان المسلمين، ولكنه استفاد من رشيد رضا فكرة الوحدة الاسلامية، وفكرة التكتل والتجهيز الدائم للمعارك القادمة، وبالطبع أصبح أعضاء جمعية الشبان المسلمين، وأعضاء جماعة الاخوان المسلمين تلاميذ غير مباشرين، ثم إنك لو سألتنى عن أكثر الذين أثّر فيهم رشيد رضا ساقول لك فى البداية حسن البنا، ومحمد اقبال، والمودودى، وسيد قطب، والهضيبى، وبن باز وابن عثيمين، ولعلك تلاحظ أن بإمكانك أن تضعهم جميعا فى جانب واحد، وهو تيار وإن كان ألأكثر محافظة، فهو الأكثر تواجدا والأكثر اتباعا.
*فى نظرك ما الموقع الذى يحتله رشيد رضا على خريطة الإصلاحيين المعاصرين؟ وأين يمكننا تصنيفه بين ليبرالى تقدمى، وعقلى اسلامى مستنير، وأصولية راديكالية؟
–أنا عادة ما أميل إلى تقسيم التيارات الإصلاحية في مرحلة النهضة العربية إلى ثلاثة تيارات رئيسة:
– محافظ رجعى وهذا يمثله جمود بعض الازهريين والوهابيين.
-اتجاة محافظ مستنير، وهو اتجاه الإمام محمد عبده ومدرسته مثل على عبد الرازق، و مصطفى عبد الرازق، ومصطفى المراغى، وسعد زغلول، وطلعت حرب، ولطفى السيد، وقاسم أمين، وفتحى زغلول وآخرين.
-الاتجاه التحديثي التغريبي ويمثله معظم المفكرين الشوام المجترئين مثل شاهين مكاريوس، وسلامة موسى، وفرح انطون، إلى جانب إسماعيل مظهر، وإسماعيل ادهم.
رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي
لكن رشيد رضا هو أعلى درجة من ناحية الامام محمد عبده، لكنه في خندق المحافظ الرجعي، فهو رأس مثلث يجمع بين خطين المحافظ المستنير والمحافظ الرجعي. فالإصلاح فى نظر رشيد رضا لم يتخط دائرة الاصلاح الدينى، وليس أدل على ذلك من أن جميع من تأثروا به ينتمون لتيار واحد، هو التيار الدينى، وفى الأغلب تيار متشدد، وحتى بعض التصورات التى تمرق عن التيار الدينى لتأخذ شكلا سياسيا مثل حديثه عن الوحدة الاسلامية، ووحدة الولايات العربية، فهي تصورات قاصرة من ناحية، ولا تنتمى له على نحو أصيل بل ترتد في الغالب إلى الأفغاني أو غيره ممن تأثر بهم، فلا وجه للمقارنة بين تصور الكواكبى للوحدة والخلافة الاسلامية فى (أم القرى)، وبين تصور رشيد رضا لنفس الفكرة.
أما عن مهاجمته للصوفية فلأنه حين كان في الشام كانت الغلبة للتيار الصوفى على الحياة الدينية، ولم يكن هناك بديل سوى مدارس اليسوعيين والعلمان، لذلك عندما اتصل بالحياة العقلية فى القاهرة تمرد عليهم بعد أن كان سجين بحورهم. وقد يكون هذا ليس الا تعارض أنساق، فالصوفية تضفي القداسة على أهل البيت، والوهابية شركاء لال سعود، وأقوى خصوم آل سعود كان الشريف حسين، وهو ينتمى لأهل البيت، وبالتالي فالمصلحة كانت تقتضي أن يهاجم التصوف ليهاجم فيهم الشريف حسين، وينتصر بذلك للدعوة الوهابية وآل سعود الذين رأى فيهم أفضل من يقود الخلافة الاسلامية، ويقوم بابتعاثها من جديد.