يحلو لبعض الكتاب من بني جلدتنا من المصريين أن يصوروا شعبنا- وبخاصة البسطاء من أبنائه- ككتلة خاضعة خانعة لا تعرف معنى الثورة إلا إذا ظهرت فى واقعها – فى سياقات وظروف تاريخية نادرة – قيادة كاريزمية تقودها نحو الفعل الثوري. إلا أن التعمق في ماضى الوطن وتراثه وقراءته باستفاضة، يكشف للباحث عن نتيجة مغايرة ومختلفة تماما، حيث يؤكد أدب مصر القديمة أن المصريين لم يعرفوا الثورة فحسب بل كانوا أول من عرفها في تاريخ البشرية.
وهنا نضرب مثالا يحكيه لنا التاريخ المصري القديم.. فمع تدهور الأوضاع في مصر في أواخر العهد الإقطاعي وتحديدا في أواخر سنين حكم الأسرة السادسة، بدأ التململ يظهر في أوساط الفلاحين الذين عانوا من هذا الحكم. وسرعان ما تحول هذا التململ إلى انتفاضة شعبية شاملة شهدت انقلاباً تاما للأوضاع الاجتماعية.
وحفظت لنا بردية «إيبور»- نسبة إلى الحكيم المصري الذي كتبها- شهادة حية عن تلك الفترة وما آلت إليه الأوضاع في اعقاب هذه الانتفاضة.
بردية «إيبور»
تصور البردية الحكيم وهو يخاطب أحد الحكام الاقطاعيين ويصف ما وصل إليه حال البلاد ،ويغلب على شهادته طابع الحزن الشديد والألم لما ألم بوطنه.
غضب الفقراء
ويبدو من شهادة هذا الحكيم أن الانتفاضة كانت في جوهرها انتفاضة اجتماعية قامت بها جموع الشعب الفقيرة ،حيث دفع الجوع والقهر البسطاء لمهاجمة قصور الأثرياء وطردهم من القرى، بل إن قصر الملك نفسه -وفقاً للبردية- لم يسلم من هذه الهجمات.
ويصف إيبور الانقلاب التام للأوضاع الاجتماعية بقوله «لقد أصبح المعوزون الآن يملكون أشياء جميلة، ومن كان يخصف نعليه فيما مضى أصبح صاحب ثروة».
في المقابل فان الأثرياء أصبحوا في عوز بعد تلك الانتفاضة حيث أن «الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل أصبحوا يُضربون، واللائي لم يشاهدن نور النهار قد خرجن».
ويضيف إيبور: «حقاً لقد أصبح أبناء الأمراء يضرب بهم القوم عرض الحائط والأطفال الذين كانوا محبوبين قد أُلقي بهم على قارعة الطريق».
ويبدو أن غضب البسطاء لم يقتصر على الأثرياء وانما نال كافة المؤسسات بعضٌ من هذا الغضب، كالمؤسسة القضائية مثلا التي لم تسلم من أيادى وأقدام الثائرين، حيث «وُضعت قوانين المحاكمة في البهو وصار القوم يطأونها في الطرقات ويمزقها الفقراء في الأروقة».
كما أن المؤسسة الدينية نفسها نالها مصير مشابه، حيث يصف إيبور الاستخفاف الذي بات الناس يتعاملون به مع المعابد، رمز تلك المؤسسة.
ملك من أبناء الشعب
وعرفت هذه البردية باسم «بردية ليدن 244»- ،وهو الرقم الذى حُفظت به البردية بعد أن نُقلت إلى متحف ليدن عام 1828- لتسجل أبعاد ووقائع أول ثورة عملاقة في تاريخ البشرية.
ويرى بعض المؤرخين أن مصر لم تعرف الاستقرار بعد هذه الانتفاضة ،إلا بعد أن وصل إلى سدة الحكم ملك من صفوف الشعب هو «أمنمحات الأول» الذي بدأ عهداً من الاستقرار بعد أن قام بتنظيم الحكومة والحد من سلطة النبلاء وازدهرت مصر في عهده.
أمنمحات الأول
إن تأمل هذه البردية وما تحويه من تفاصيل وإشارات لكفيل بدحض أكذوبة الخنوع عن شعبنا، ذلك الشعب الذي وصفه المؤرخ الأمريكي جيمس هنري برستد في كتابه «فجر الضمير» بأنه خاض أقدم جهاد في تاريخ البشرية في سبيل العدالة الاجتماعية.
جيمس هنري برستد وكتابه «فجر الضمير»