فيما يمثل ظاهرة تثير الدهشة، شهدت جماعة الإخوان المسلمين موجات من الإنشقاقات داخل فرعها في مدينة دمنهور والمناطق المحيطة بها في محافظة البحيرة، وهو ما لم يحدث في غيرها من المحافظات. الجماعة نفسها عجزت عن تفسير هذا الأمر، لدرجة أن بعض عناصرها أطلقوا علي دمنهور وصف «المدينة الملعونة» نظرا لكونها دائما ما تُخرج منشقين عن الجماعة يتحولون فيما بعد لنقاد لفكرها ولسلوكها السياسي.
يشكل عامل البيئة والجغرافيا الحضرية عاملا مهما في محاولة تفسير ذلك الطابع الانشقاقي (إخوانيا) في هذه المنطقة، إذ من المعروف أن مدينة دمنهور القريبة من الإسكندرية، والتي يتعلم الكثير من أبنائها في جامعتها، تقع تحت التأثير الثقافي للمدينة الساحلية الأكثر قربا وانفتاحا على العالم عبر المتوسط. كما أن دمنهور تضم عددا من المنارات الثقافية المتميزة، فباستثناء القاهرة والإسكندرية تنفرد دمنهور بين عواصم المحافظات بوجود فرع للأوبرا تم تشييده منذ عام 1930م في عهدالملك فؤاد الأول، وقد أعيد بناؤه وافتتاحه في 2009.
دار أوبرا دمنهور
لكن العامل الجغرافي هنا يبقى كمفسر عام فضفاض يستدعي بحثا عن تفسير (ثقافي) أوضح و أكثر اقترابا من الواقع.. تفسير يتعلق بتاريخ الإخوان وحاضرهم واتجاهات أعضائهم وتحولاتهم في هذه المحافظة على وجه الخصوص.
أبرز المنشقين
يمكن القول إن الحدثيْن الأهم في تاريخ مصر المعاصر، ثورة 25 يناير 2011 من ناحية، وفشل الإخوان في الحكم الذي انتهى عام 2013 من ناحية أخرى، مثلا صدمة فكرية كبرى أدت لاهتزاز الكثير من المفاهيم القديمة الراسخة لدى بعض أعضاء الإخوان – مثلهم مثل غيرهم من التيارات الأخرى والمصريين عموما –، وكان من الطبيعي أن يظهر هذا التأثير في المناطق والبيئات الأكثر انفتاحا على المستوى الفكري من بين مناطق انتشار الإخوان، ولذلك عرفت محافظة البحيرة ظاهرة الانشقاقات عن التنظيم بشكل ملفت، وهو الأمر الذي طال عدداً غير قليل من القيادات الكبيرة والمتوسطة فيها.
كان من أهم المنشقين عن الجماعة بعد ثورة يناير 2011 حازم قريطم القيادي الإخواني البارز الذي انشق عام ٢٠١٢، وعمرو كامل مسئول قسم الطلاب بمحافظة البحيرة، والذي بدأ انشقاقه عن التنظيم منذ عام ٢٠١٢ وأعلنه رسميا بعد ثورة ٣٠ يونيو.
حازم قريطم عمرو كامل
وفي أعقاب ثورة 30 يونيو وما تلاها من اعتصامات الإخوان، استمرت الانشقاقات عن التنظيم.
عن أجواء هذه الفترة يقول سمير عامر الإخواني الدمنهوري المنشق: «ضربت الانشقاقات التنظيم بقوة بعد ثورة 30 يونيو في دمنهور والبحيرة بسبب عدم سماع قادة الجماعة لكل النصائح التي كانت قد قدمت لهم بعدم خوض انتخابات الرئاسة، وكذلك النصائح التي قدمناها أثناء فترة حكم للبلاد لتجنب ثورة الشعب، مما جعل الكثيرين من أعضاء الإخوان في المحافظة يقررون ترك الجماعة». وقد كان من أبرز المنشقين في هذه الفترة أيضا القيادي والكاتب كامل رحومة، وطارق البشبيشي وطارق أبو السعد بعد سنوات من تهميشهما المتعمد داخل الإخوان لمعارضتهما قرارات الجماعة، وسمير عامر مسئول قسم فلسطين في التنظيم والذي خرج من الجماعة بعد اعتصام رابعة وغيرهم عدد كبير من القيادات والرموز.
سمير عامر
ثم بدأت موجة جديدة من الانشقاقات في فبراير عام 2016 عندما خرج القيادي الإخواني يحيي الخوالقة، أحد أكبر قيادات الإخوان في دمنهور والقيادي البارز المهندس أحمد المسيري، وكان يشغل وقتها موقع مسؤول اللجنة السياسية بالمكتب الإداري لجماعة الإخوان بالبحيرة، والذي قال في تصريحات خاصة لـ «أصوات أونلاين» إنه «في مايو 2017 انشق أيضا 360 من أعضاء الإخوان بالمحافظة متبرئين من الجماعة وقيادتها، متهمين إياهم بالدعوة إلى العنف والإرهاب والتخريب».
أحمد المسيري
وفي مايو عام 2018 أعلن القيادى الإخوانى معتز مصطفى محمد شاهين، ابن شقيقة القيادى الإخوانى الهارب جمال حشمت، توبته وتبرؤه من الجماعة مع مجموعة من شباب الإخوان.
جمال حشمت
ويلاحظ أنه خلال تلك السنوات أتخذت الانشقاقات واحدا من مسارين: الأول هو الدخول في حالة العزوف عن السياسة المباشرة نتيجة عدم القدرة على استيعاب الأحداث – خاصة بعد الثورة الشعبية في 30 يونيو 2013، وهو المسار الذي اتبعه معظم منشقي المحافظة، و منهم من آثر الاستغراق في الدرس والبحث مثل طارق البشبيشي وطارق أبو السعد الباحثيْن في شئون الإسلام السياسي.
أما المسار الثاني فتمثل في الانشقاق عن الجماعة ودخول ما بدا حينها وكأنه بديل إسلامي ديمقراطي مثَّله حزب «مصر القوية» الذي كان قد أسسه المنشق الإخواني السابق الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، قبل أن ينشقوا عنه أيضا، وهو مسار اتبعه القليل من منشقي المحافظة، كان أبرزهم كامل رحومة وعمرو كامل.
عبدالمنعم أبوالفتوح
ويلاحظ هنا أيضا أن الاتجاه العام للانشقاقات كان لأسباب فكرية-ثقافية تتعلق بالضيق من غياب الديمقراطية وانغلاق الجماعة أمام المصادر الثقافية المتنوعة.
حق التفكير .. منهج المسيري والقويعي
لماذا برزت ظاهرة الانشقاقات عن التنظيم في دمنهور وما حولها بالذات أكثر من غيرها من المحافظات الأخرى؟ وجهت «أصوات أونلاين» هذا السؤال لعدد من هؤلاء المنشقين بالمنطقة ومن بينهم طارق البشبيشي القيادي البارز بالتنظيم والذي يعتقد «أن من الأسباب الرئيسية التي جعلت الانشقاقات تضرب فرع الإخوان بدمنهور وجود بعض القيادات المثقفة المستنيرة فى المحافظة». ويرى عمرو كامل مسئول قسم الطلبة بجامعة دمنهور والذي انشق عن التنظيم بعد ثورة 25 يناير أنه على الرغم من أن الدكتور عبد الوهاب المسيري-ابن دمنهور– كان يمثل مشروعا فكريا مستقلا عن الإخوان، وقد ساهم مشروعه الفكري بشدة في إخراج بعض شباب الإخوان من الجماعة خاصة في المراحل الأولى حيث وفر لهم بديلاً ثقافياً يحتويهم ويقويهم فى مواجهة التنظيم وأيديولوجيته المغلقة.
طارق البشبيشي
وعودة إلى البشبيشي حيث يرى: أن النهج المنفتح للمفكر الإسلامي التجديدي عبد الوهاب المسيري قد يكون له دور في تفسير الظاهرة من خلال تجسيده لصورة مختلفة للمفكر الإسلامي، ولكن هذا التأثير كان نوعا من التأثير غير المباشر أو التأثير «عن بعد»، غير أنه لا يقارن بالتأثير «عن قرب» وعلى الأرض لشخصيات مثقفة ومنفتحة نسبيا ظلت بعيدة عن الإعلام. وكان على رأس هؤلاء الأستاذ محسن القويعي الذى كان له أثر بالغ فى انشقاق أعداد كبيرة من اخوان البحيرة و إخوان دمنهور بصورة خاصة.
محسن القويعي
ويضيف البشبيشي في تصريحاته لـ «أصوات أونلاين»: «كان محسن القويعى مختلفا عن غيره من قيادات الجماعة، فعلاوة على امتلاكه لشرعية تنظيمية قوية كونه أحد الذين أعادوا بناء التنظيم فى محافظة البحيرة بعد عودة الجماعة فى السبعينيات من القرن الماضى، فقد كان منفتحاً على الفنون و الآداب محبا للموسيقى و الطرب قارئا للروايات و كتب العلوم الانسانية، وهو ما أثر في رؤيته السياسية المنفتحة وجعل منه صاحب شعبية استثنائية داخل التنظيم وخارجه».
الخط الأحمر.. مبدأ السمع والطاعة
ويتابع البشبيشى: «كان بيت «محسن القويعى» مفتوحاً للجميع وكانوا يحبون مجالسته وبدأت أفكاره تتسرب لكثير من الإخوان فى المحافظة، مما أزعج كثيراً قيادات التنظيم فى المحافظة و قيادات مكتب الارشاد. ولكن الأمر تجاوز مستوى الانزعاج حين وصلت آراء القويعي إلى حد رفض «مبدأ السمع والطاعة» الذي يجعل أعضاء الجماعة ينفذون أي أمر يصدر لهم دون أي تفكير. وعلى العكس من ذلك دأب القويعي على حث أعضاء الجماعة على التفكير والتدبر والمناقشة قبل تنفيذ أي قرار يصدر عن التنظيم.. وكان القويعي يكره القطبيين داخل الجماعة و يحذر منهم دائما، كما كانوا يبادلونه كرها بكره، ولذلك عملوا على تهميش دوره والتقليل من تأثير رؤيته المنفتحة».
ويستكمل عمرو كامل القصة قائلا: «وهب الله محسن القويعي طبيعة حرة لا تقبل الأمور دون فهم ولا تقبل الطاعة دون وعي وقد كان سببا في تربية جيل كامل من الإخوان منذ سبعينات القرن الماضي وهو الجيل الذي كان نواة التأسيس الثاني للجماعة برعاية عبد المنعم أبو الفتوح مع محسن القويعي الذي كان قد خرج لتوه من السجن ليعيد تأسيس التنظيم من جديد».
ويضيف عمرو «كنا نلتف حوله دائما، فكنا نذهب إليه ونسأله ونستشيره وكان هو يجيب بحرية مطلقة، ولم يعطنا يوما أمرا دون تفسير، بل اعتاد أن يجعلنا نتناقش ونفكر حتى نصل إلى القرار السليم الذي نطبقه جميعا وهو ما أغضب قيادات التنظيم وبشدة لدرجة أنهم قرروا تهميشه والتحذير من فكره».
يذكر أن محسن القويعي كان مرشحا عن الإخوان لمجلس الشعب –أكثر من مرة- في عهد الرئيس الأسبق المخلوع حسني مبارك كما كان عضو اللجنة العليا لحزب الحرية والعدالة قبل أن يعلن الانشقاق عن التنظيم وينضم إلى حزب النهضة، وظل هكذا حتى توفاه الله عام 2012. وعلى الرغم من نعى مرشد الإخوان محمد بديع له في بيان رسمي، إلا أن ذلك لم يُخف كره الكثيرين من الإخوان له.
من جانبه، يرى عمرو عبد المنعم، الباحث في شئون الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية المسلحة: أنه على الرغم من التأثير الكبير لشخصية محسن القويعي، وللنموذج المختلف الذي جسده، في جيل كامل من قادة الإخوان وشبابهم الذين عاصروه في محافظة البحيرة ، إلا أن هذا التأثير لم يصل إلي الجيل الجديد من الإخوان بعد وفاته بشكل محسوس. ويرجع عبدالمنعم ذلك لسياسة الحصار التي ضربتها قيادة الإخوان على الرجل ، وطمس وتجاهل أي خلاف في منهج التفكير كان بينه وبين القيادة، وتعمد ذكره بالخير وتفادي المبالغة قي التحذير من أفكاره إتقاء لفضول الأجيال الجديدة للتعرف على سيرته التي حمد مكتب الإرشاد الله أنه توفى قبل أن تتحول لأيقونة في أوساط الإخوان.
عمرو عبد المنعم