يرى كثيرون أن شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تحمل كثيرا من جوانب الثراء الدرامي التي لم يرق إليها أكثر الأعمال التي قُدمت عنه إلى الآن.. فالشخصية التي يتصاعد الخلاف حولها كل عام في مناسبات عدة لاتزال تثبت حضورا طاغيا يستعصي على التغييب، بتفاصيل تُستدعى في أغلب المواقف التي تعاينها وتعانيها الشعوب العربية؛ حتى أن حضوره صار لدى قطاعات واسعة مطلبا ضروريا لا ينفع معه كثير من دعاوى الإلهاء.
فقد مثَّل عبد الناصر بسياساته وقراراته وانحيازاته وإنجازاته.. وأخطائه أيضا – نموذجا للتحدي والإصرار وصلابة المواجهة والقدرة على اتخاذ القرار- ولكن يفضل كثيرون -لأسباب عديدة- أن يُمحى من الذاكرة؛ فإذا كان هذا غير ممكن، فلا أقل من أن تغيب الموضوعية وتنتشر الأكاذيب وتضيع الحقائق في كل ما يتعلق بالرجل.. ولما كان الفن هو ذاكرة الأمة وأحد حراس ثقافتها، وباعثي وعيها، وأحد أهم ركائز تشكيل الوجدان؛ كان لابد أن تظل تلك الشخصية بعيدة كل البعد عن الأعمال الفنية.
https://youtu.be/JshfnSfHL28
ناصر 56.. شرف السبْق
الصحفي مجدي الطيب كان قد رصد في تحقيق أجراه في يناير1988 بمناسبة الذكرى السبعين لميلاد الزعيم، ونشر في جريدة صوت العرب آراء بعض الفنانين والنقاد عن أسباب غياب عبد الناصر عن شاشة السينما، وقد تراوحت الردود بين أن الوقت لم يحن بعد، ومسئولية القطاع الخاص، وعدم رغبة الدولة، بينما ذهب الناقد كمال رمزي إلى أن السينما المصرية هي سينما الثورة المضادة بامتياز؛ لذلك ليس من المعقول أن تحتفي بشخص الزعيم، وقد اتفق المخرج يوسف شاهين مع هذا الرأي وقال صراحة: إن الديمقراطية الزائفة التي نحياها لا تتيح لنا الفرصة لتقديم أعمال فنية نعبر فيها عن حبنا وتقديرنا لشخصية بحجم عبد الناصر.. أما الكاتب أسامة أنور عكاشة فقد ذهب إلى أن الردة الفكرية التي حدثت بعد رحيل عبد الناصر قد خلَّفت رجالها وكوادرها، وهم أحرص ما يكون على الحيلولة دون إعادة صورة ناصر إلى أذهان الجماهير.
احتاج الأمر بعد ذلك لنحو عقد آخر من الزمان؛ حتى تضافرت بعض الجهود الفردية؛ ليخرج إلى النور فيلم «ناصر 56» الذي حقق نجاحا مدويا، ليس فقط بسبب الأداء الرائع بالغ التميز للفنان أحمد زكي وبقية الممثلين، ولا إبداع المؤلف محفوظ عبد الرحمن الذي كتب بصدق ومحبة، ولا تقنيات التصوير بالأبيض والأسود التي نجحت في استعادة زخم الفترة وتحدياتها، ولا موسيقى المبدع ياسر عبد الرحمن التي نطقت بجلال اللحظة وعظمتها، ولا ذلك التوفيق غير العادي الذي صادف المخرج محمد فاضل الذي تخصص في الدراما التليفزيونية، ولم يكن ذا تجربة ثرية في الإخراج السينمائي.. بل كان السبب الأهم هو شوق الجماهير وتوقها العارم لاستعادة بطلها الذي حُجب عنها عنوة لأكثر من عقدين ونصف دون أسباب واضحة.
لذلك سيحتفظ صانعو «ناصر56» بشرف السبق لكسر حاجز التغييب المتعمد لشخصية عبد الناصر عن الأعمال الفنية، وسيحتفظون أيضا بالتقدير الواجب من الجماهير العريضة التي شاهدت العمل؛ فاستحضرت أمجد أيام مصر التي غيرت خريطة القوى في العالم، وأنهت إلى الأبد عهد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
كاريكاتير من الصحافة الروسية والأمريكية يوضح نتائج حرب56 قطع ذيل الأسد البريطاني وإصابته ونتف ريش الديك الفرنسي.
وتعود القصة إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما أراد الفنان «أحمد زكي» طرح مشروع فني يتضمن تقديمه لرموز مصر في تاريخها المعاصر في أعمال سينمائية، ولما كانت تلك الأعمال تحتاج إلى ميزانية كبيرة، كما أن النجاح الجماهيري لها غير مضمون؛ رأى الفنان الراحل أن يعرض الأمر على قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري.
وفي ظروف شبه مستحيلة ولأسباب لا نعلمها لاقت الفكرة قبولا؛ فدارت العجلة بسرعة في ظل حماس المشاركين ورغبتهم في إنجاح العمل وخروجه على أفضل وجه ممكن.. وبذكاء الفنان استطاع أحمد زكي استدعاء الشخصية في أدق تفاصيلها مُركّزا على السمات الأساسية مثل قوة الإرادة والتصميم وقبول التحدي، وعدم الرضوخ للتهديد، ورغم عدم وجود شَبَه بين ملامح الممثل والزعيم، إلا أن زكي بلغ درجة من الإتقان جعلت هذا الأمر ثانويا غير ذي بال.
الفيلم المظلوم
لا يستطيع أحد القول أن النجاح الكبير الذي حققه «ناصر 56» هو الذي أغوى المخرج السوري أنور قوادري بتقديم فيلم عن الزعيم عام 1998، فالمشروع كان قد قطع شوطا كبيرا على مدى سنوات استعان فيها المخرج بكاتب بريطاني هو «إريك سندرز» وآخر مصري «إيهاب الإمام» كما أنه اطلع على جميع الوثائق المتاحة عن الزعيم خاصة ما كان لدى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذي جمعته بالمخرج جلسات مطولة، وقد دعا المخرج خمس عشرة شخصية أدبية وفنية وسياسية وأكاديمية لتشكيل لجنة لقراءة ومناقشة السيناريو بعد الانتهاء منه، وقد قدمت اللجنة بعض الملاحظات وُضعت في الاعتبار، بعد الانتهاء من التصوير شاهدت اللجنة الفيلم وأشادت به، إلا أن هدى عبد الناصر ابنة الزعيم أثارت العديد من المشاكل حول السيناريو والفيلم، وكذلك فعلت برلنتي عبد الحميد أرملة المشير عبد الحكيم عامر، ومورست دعاية سوداء في مصر تجاه الفيلم ومخرجه أدت في النهاية إلى عدم نجاحه، برغم عديد من جوانب التميز فيه منها أداء بطله «خالد الصاوي» ويبدو أن كثرة التعديلات في السيناريو قد أضرت به كثيرا، كما أن الفيلم لم يحصل على الترويج الكافي والدعاية اللازمة في ظل أجواء أقل ما وصفت به أنها عدائية.
ولكن الفنان خالد الصاوي عاد و قدم شخصية الزعيم مجددا عام 2006، من خلال الفيلم البريطاني «السويس أزمة بريطانية جدا» الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية، ويوضح الفيلم الآثار الخطيرة والمدمرة التي أحدثتها حرب56، في السياسة البريطانية، ومكانة بريطانيا في العالم بشكل عام.
وتجدر الإشارة إلى أن هيئة الإذاعة البريطانية كانت قد أنتجت عام 1979، فيلما بعنوان «السويس 1956» قام فيه الممثل البريطاني «روبرت ستيفنز» بدور عبد الناصر، وقد أبرز الفيلم كيف حولت حرب السويس عبد الناصر إلى بطل قومي وأحد أهم زعماء العالم، بينما حولت رئيس الوزراء البريطاني “أنتوني إيدن” إلى مصدر للخزي والعار لبلاده.
الفنان خالد الصاوي في دور الرئيس جمال عبد الناصر
عبد الناصر في الدراما
في العام 1999، قدمت المخرجة الكبيرة إنعام محمد علي مسلسل «أم كلثوم» عن قصة محفوظ عبد الرحمن الذي أفسح لدور عبد الناصر في المسلسل مساحة لا بأس بها.. وقد أدى الدور الفنان «رياض الخولي» فأجاد ونال استحسان الجماهير والنقاد..
رياض الخولي في دور عبد الناصر
ويقدم الفنان نبيل الحلفاوي في الجزء الثالث من مسلسل أوراق مصرية عام 2004، دور الرئيس عبد الناصر؛ فلم يشعر به أحد لأسباب كثيرة منها أن مساحة الدور لم تتح له الوقت لتناول أبعاد الشخصية بعمق، بالإضافة إلى أن الحلفاوي ليس من هواة التقمص، ويغلب عليه أداء الشخصية وفق إحساسه بالموقف التمثيلي، وهو ما يعنى الحضور القوي لأداء الممثل بدرجة تفوق القدرة على استدعاء الشخصية.. وفي العام 2006، وفي ظل موجة أعمال السيرة الذاتية يقدم المخرج جمال عبد الحميد والمؤلف مدحت العدل مسلسل العندليب: حكاية شعب. ويفسح المؤلف مساحة كبيرة لدور عبد الناصر الذي اختار له المخرج الممثل مجدي كامل الذي أبدع في الدور، وهو ما كان له أكبر الأثر في ترشيحه لأداء دور الرئيس في مسلسل «ناصر» عام 2008، من تأليف يسري الجندي، وإخراج السوري «باسل الخطيب» وقد كان أداء مجدي كامل موفقا إلى حد بعيد، واستطاع من خلال تمكنه من الشخصية وسبر أغوارها ترك علامة فنية مميزة ستظل باقية لدى الجماهير العربية لفترة طويلة.
وفي عام 2012، يقدم الممثل حمادة بركات دور الزعيم في مسلسل «كاريوكا» من تأليف فتحي الجندي وإخراج عمر الشيخ، ولم يلق المسلسل النجاح المنتظر، وربما كان أداء بركات لدور الزعيم هو أفضل ما في المسلسل.. وفي عام 2014 يقدم المخرج عثمان أبو لبن واحدة من أسوأ تجاربه الدرامية وهو مسلسل «صديق العمر» ويقدم الممثل جمال سليمان دور الزعيم في المسلسل.. لينال عن جدارة واستحقاق لقب أسوأ من قدم دور عبد الناصر بلا منازع.
ثم يقدم الممثل الأردني الراحل ياسر المصري الدور عام 2017 في مسلسل الجماعة 2، ويمكننا القول أن المصري قد تفوق تفوقا كبيرا في أداء الدور بسبب موهبته وتعمقه في الشخصية التي لم يخف حبه الشديد لها، وفي تقديري أنه يحتل مرتبة متقدمة جدا إذا جاز لنا ترتيب من قدموا شخصية الزعيم، فربما لا يسبقه سوى العملاق أحمد زكي.
ومازلنا في انتظار أعمال فنية تقترب من قيمة وقامة الرئيس عبد الناصر، إذ نرى أن ما قُدِّم إلى الآن من أعمال لا يكفي على الإطلاق، كما أن الشخصية تحتاج إلى كثير من الأعمال التي تبرز دورها في صنع التاريخ.. وهذا ما لم يستطع الغرب إنكاره لفترة طويلة، فما بال البعض عندنا مازالوا يحاولون الانتقاص من قيمة الرجل معاندين الحقيقة والتاريخ وماهم ببالغين أهدافهم، فما زال حضوره القوي عصيا على أي غياب.