اتفقنا جميعا على أن السينما لم تعبر عن حرب اكتوبر المجيدة كما ينبغى، وكما يليق بالبطولات والتضحيات التى بذلها المقاتل المصرى فى الحرب، فهل كان الأدب أصدق تعبيرا عن ملحمة أكتوبر؟، وهل منح المبدعون المصريون هذا النصر العظيم إبداعا يناسبه؟، باغتنا عددا من أدبائنا بهذا السؤال.. فماذا قالوا؟
تجربة حية
يقول الروائي والقاص السيد نجم: كنت مجندا من عام 71 إلى عام 75 فكتبت عن تجربتى الحية وعن ملامح الأيام الصعبة التي كنا نعيشها نحن الجنود.. فالجندي في الحرب لا يعرف معنى الانتصار أو الهزيمة بالشكل المطلق، ربما يستشعرهما كحالات مؤقتة ومتغيرة طوال أيام المعارك..
الروائي والقاص «السيد نجم»
الجندي في ميدان المعارك يسعى لتحقيق هدف يؤمن به مع مشقة ورغبة الدفاع عن الحياة.. من هنا كانت الاقتحامات التي يمارسها البعض لبؤر الأخطار هي ذروة البطولة عندنا فيما بعد، وأضاف، كان على جيلنا القيام بمهمة استرداد كرامتنا قبل استرداد أرضنا المسلوبة، لم تكن المهمة سهلة ولا تقليدية.. سواء عسكريًا أو سياسيًا.
أما عن ممارسة الابداع مع بدايات فترة التجنيد وما قبلها، فأول قصة لى- يقول السيد نجم – نشرت بمجلة روزاليوسف على صفحتين, وبرسم للفنان «مأمون», وبحفاوة أدهشتني.. وهو ما عبر عنه القائمون على المجلة في حينها «صبري السيد», «عبد الرحمن فهمي», والفنان الإنسان «حسن فؤاد», ولا أنسى أن الذي قدمني هو الناقد «عبد الرحمن أبوعوف».
السيد نجم بالزي العسكري
أما القصة فهي «ليلة من ألف وخمسمائة ليلة» نشرت في يناير 1972م، وتدور حول موقف إخبار زوجة شهيد بانقضاء أربع سنوات على اختفائه، وبالتالي سيعامل إداريا معاملة الشهيد.. بينما الزوجة ترفض تماما القرار، وتتمسك بفكرة واحدة أن زوجها قادم من أعماق الصحراء من سيناء، وشبهته بعنترة مرة وبكل أبطال السير الشعبية مرات.. تلك القصة-كما قال كثيرون- تنبأت بحرب أكتوبر 73.
ثم كانت القصص التي كتبت أثناء وبعد المعارك, وقد نشر أغلبها بمجلة الشباب التي صدرت كنشرة عن منظمة الشباب الاشتراكي يوميا,.. واستمرت لسنوات قليلة بعد المعارك، وقد جمعتها فى مجموعة «أوراق مقاتل قديم»، كما أتذكر أنني فزت في أكثر من مسابقة حول تجربة حرب أكتوبر 73 فيما بعد. كان المصطلح فى البداية هو أدب أكتوبر ثم أصبح أدب الحرب ثم اتسع الى «أدب المقاومة».. وقد أصبح مشروع حياتي, حتى الآن. وأدعى بلا نرجسية أنني أخلصت وأنتجت فيه ما يجعلني فخورا به: وقد كتبت «أوراق مقاتل قديم» 1978م وكتاب «الحرب الفكرة –التجربة» عام 1995 رواية «السمان يهاجر شرقا» 1995م وكلها صدرت عن هيئة الكتاب و كتاب «المقاومة والأدب» 2000م- عن هيئة قصور الثقافة.
كما كتبت «عودة العجوز إلى البحر» عام 2000م و«يا بهية وخبريني» – أربع روايات قصيرة – عام 2006..
إبداع عاجز
الناقد حسام عقل يرى أن القارىء للإبداع العربي الذي كتب عن تجربة العبور العظيم، سيلاحظ للوهلة الأولى غيبة النماذج الإنسانية الرفيعة، المفعمة بنزق الفن ورؤى الحياة، ورصد تحولات الشخصية الجماعية والفردية، في أزمنة الملاحم الكبرى والحروب، كما صنع هوميروس وغيره قديما مع «“حرب طروادة»، أو كما صنع «هيمنجواي» في رائعته: «وداعا للسلاح»، فلا مفر من الإقرار بأن المبدع العربي _ حتى في مصر و سوريا (بلدا المواجهة المركزية في 1973) لم يستطع أن يصور روعة الملحمة، ولا فوران تحولاتها الكبرى، و لا تجلياتها وآثارها الحضارية والسسيولوجية على إنسان المنطقة العربية. وهذا ما عبر عنه الراحل الشاعر الكبير «نزار قباني» حين عقب على التجارب الإبداعية التي تحوم حول تجربة «أكتوبر» (أو تشرين) بأنه: «أدب ضحل لا يرقى إلى قامة الدم، الذي أريق!»
الناقد حسام عقل
ويضيف عقل: لا أتصور أن في ما قاله «نزار» أدنى مسحة من المبالغة، فقنع «توفيق الحكيم» مثلا بمقالة بعنوان : «عبرنا الهزيمة»، وقنع عميد الرواية العربية: «نجيب محفوظ» بسلسلة مقالات نثرية بعنوان: «دروس أكتوبر»، فلم يلتقط نبض المرحلة المواكبة للحظة العبور في عنفوانها و طزاجتها -قصصيا وسرديا، وحتى بعد سنوات وعقود، لم يفكر محفوظ في أن يرصد في مشروعه السردي الممتد، «تجربة أكتوبر» بعد أن تكرست اتفاقات السلام وتحركت في كثير من الأوطان العربية عربة التطبيع.
وقد ظهرت قصائد متناثرة حول تجربة الحرب الأشهر عربيا، لشعراء من طراز ممدوح عدوان وعبد المعطي حجازي، ووضع الراحل الكبير حسن فتح الباب ديوانا كاملا عن التجربة، لكن هذه التجارب في مجملها، ظلت زادا يسيرا نتبلغ به أو نضعه لحفظ ماء الوجوه، وفي مستوى السرد «متوسط القيمة»، كتب جمال الغيطاني مجموعة: «حكايات الغريب» مجسدا تجربته بوصفه مراسلا حربيا، وافتقرت أكثر القصص إلى العمق والشمول واستبطان الجوهر الإنساني الثري للتجربة. كما كتب حنا مينا ونجاح العطار وعبد الفتاح رزق، نصوصا قصصية متفاوتة القيمة، لم تستطع أبدا أن تقبض على الجوهر الإنساني الكبير للتجربة، وتتوطد ملامح المأزق الفني، حين نعرف أن أبرز من كتبوا مسرحا، يجسد نبض التجربة كان الراحل «علي سالم»، الذي أصبح _ فيما بعد _ أبرز المطبعين العرب، فتعرض لحملات تشهيرية ضارية، على خلفية زياراته المتكررة لـ«تل أبيب» وفقد نصه المسرحي المجسد للحس العروبي والقومي للتجربة أي مصداقية، وفي تقديري أن الحل كان يكمن منذ البداية في تكريس سلاسل متخصصة في «أدب أكتوبر»، نستكتب من خلالها الأقلام الموهوبة في جميع الحواضر والأقاليم، لنظفر في النهاية بنص مهني/ فني جيد، وهو ما استدركته الدولة مؤخرا من خلال سلسلة العبور ولكنها في تقديري لم تتمخض حتى الآن عن نص مقتحم استثنائي فارق.
علاقة خاصة
ويقول الكاتب الصحفي والروائي ناصر عراق: بيني وبين حرب أكتوبر 1973 علاقة خاصة حميمة، فقد شارك أخوتي الثلاثة الكبار في الحرب (المحاسب إبراهيم في الجيش الثاني/ الملازم أول المهندس فكري ضابط الرادار/ الجندي المقاتل فوزي في الجيش الثالث الذي حوصر في الدفرسوار)، وقد شاهدت يوم اندلاع الحرب كيف زحف القلق الشديد على وجه أمي وأبي، رغم أن الفخار كان يرتسم أيضا على قسماتهما.
الروائي ناصر عراق
ويضيف عراق: «أذكر ذلك جيدًا فقد اقتربت آنذاك من إكمال عامي الثالث عشر، الأمر الذي يجعل الكثير من الوقائع اليومية لتلك الحرب محفورة في وجداني، أذكر أيضا كيف ارتجف جسمي، مع مئات من تلاميذ مدرسة شبرا الخيمة الإعدادية بنين، ونحن ننصت في الفسحة إلى ناظر المدرسة الأستاذ بديع باسيلي موسى، وهو يهتف باعتزاز عصر يوم السبت السادس من أكتوبر (الله أكبر… الله أكبر… لقد عبر جنودنا قبل قليل قناة السويس وحطموا خط باريف… الله أكبر والنصر لمصر)
هذه الشحنات الوطنية المترعة بالعزة والمجد والفخار تجلت في أعمالي بعد ثلاثين عامأ عندما شرعت في كتابة روايتي الأولى (أزمنة من غبار)، والتي صدرت عام 2006 عن دار الهلال. في هذه الرواية حاولت أن أستلهم أجواء الحرب كما سجلتها ذاكرتي، من خلال شخصية الجندي المقاتل (أحمد) ابن العامل البسيط الذي استشهد في الحرب، وكيف كانت حياته قبلها، وماذا اعترى أسرته بعدها، خاصة شقيقه الأصغر خالد.
ناصر عراق بالزي العسكري
كذلك انبثقت أجواء الحرب وآثارها في روايتي (نساء القاهرة. دبي) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2014، حيث تلقت أستاذة التاريخ إنصاف جرجس خبر استشهاد زوجها العقيد صبحي ميخائيل في اليوم نفسه الذي رحل فيه طه حسين، وهو يوم 28 أكتوبر 1973، الأمر الذي زلزل كيانها، هي وأبوها وابنتها الطفلة سوزان التي ما إن كبرت والتحقت بكلية الفنون الجميلة بالزمالك حتى انضمت إلى منظمة اشتراكية سرية تطالب بالعدالة الاجتماعية ومقاومة العدو الإسرائيلي.
على أية حال، لا أظن أننا منحنا حرب أكتوبر ما يليق بها من اهتمام أدبي وفني، فالذين تصدوا للكتابة عن هذه الحرب وأجواء الصراع العربي الإسرائيلي لا يمثلون إلا مجموعة قليلة من الأدباء، كما أن الأعمال الإبداعية (شعر/ قصة قصيرة/ رواية) التي استوحت تلك الحرب وبطولاتها كانت محدودة، وقليل من هذه النصوص ما يرقى إلى المستوى الأدبي الرفيع، حتى السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، كلها لم تتعامل مع حرب أكتوبر بما يليق بها.
المحاسب ابراهيم عراق (1945 2011) في الجيش الثاني اثناء الحرب
الشاويش عويس
ويعود الروائى والقاص خليل الجيزاوي بذاكرته إلى الوراء قائلًا: كان الشاويش عويس صديق والدى – رحمهما الله- يؤدي خدمته بالجيش من عام 1968 حتى 1975، وظل طوال عام 1974 وحتى بعد خروجه من الجيش عام 1975 يسرد لوالدي وأنا في الصف الثاني الإعدادي، ويقص حكاياته على الجبهة مع العدو الصهيوني من بداية حرب الاستنزاف وحتى معركة الشرف والكرامة حرب 6 أكتوبر 1973، وبعد مرور 25 سنة على نصر أكتوبر، وأثناء زيارتي للقرية، جلستُ في نفس المكان الذي كان يجلسُ فيه الشاويش عويس مع والدي وكانت أنفاسه وصوته لا يزالان يملآن المكان و هويحكي ويقص كيف عبروا القناة وكيف دمروا خط بارليف، ووجدتني أستعيد حكايات عم عويس، وأكتبها لتصدر في الذكرى الثلاثين لانتصار حرب أكتوبر العظيمة فى رواية (أحلام العايشة).
خليل الجيزاوي
في هذه الرواية نجد البطل (أبو العزم/ عويس) وهو قابع وسط صحراء سيناء يجتر مرارة هزيمة 1967، يستدعى قريته «العايشة» القريبة من طنطا بناسها وذكرياتها، يستدعى أشخاصًا من لحم ودم، يعرفهم عن قرب، وما يزال يعيش معهم يستدعيهم بقوة التذكر ليجعلهم حاضرين طوال النصف الأول من الرواية، حتى نراه وهو يرصد أحلامه وأحلام قريته العايشة كأنه يرصد أحلام الوطن كله، وعبر الأحداث نجد بطل الرواية (أبو العزم) يتذكر دماء الشهداء ونحن نحصدُ ثمار الحرية وشجرتها التي رُويت بدماء الشهداء ونتائج حرب أكتوبر السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أجيالنا الجديدة وإبداع النصر
وتقول القاصة جلاء الطيرى: إن الروايات التى تناولت حرب أكتوبر كان معظمها من إبداع كتاب خاضوا تلك الحرب، فكانت أشبه بتجارب شخصية، حرب أكتوبر تجربة عامة وخاصة فى نفس الوقت تناولها كل كاتب بطرح مختلف، وفى أوقات مختلفة، وهنا أجدنى أضرب مثلين مختلفين فمثلا تولستوى عندما كتب روايته (الحرب والسلام) كتبها بعد الحرب بسنوات عدة، ولوركا أرخ للحرب الأهلية الأسبانية فى وقتها، فهل تختلف التجربة الإبداعية لمن تناول الحرب فى وقتها منتشيا بالنصر أم من تريث وقدم لنا أدبا نتاج تفكير، أم أن الموهبة هى الحكم ولا قيمة لقرب أو بعد الحدث؟ سؤال ربما تكون إجابته غاية فى الصعوبة.
القاصة «جلاء الطيري»
وتضيف الطيرى: كنت صغيرة حين قرأت رواية «الأسرى يُقيمون المتاريس» للروائى فؤاد حجازى فلم تستهونى وقتها ربما كمعظم جيلى لا ننجذب لروايات تتحدث عن الحرب، ولكننى عندما أعدت قراءتها رأيت إنها من أفضل الأعمال، وخاصة أن حجازى كتبها عن تجربة شخصية له تحدث فيها عن المعاملة اللاإنسانية التى تلقاها الكاتب وزملاؤه فى الأسر، وكما أن للروايات دورا فى التأريخ الابداعى لحرب أكتوبر هناك أيضا مجموعات قصصية منها (لا تبحثوا عن عنوان إنها الحرب) للرائع ابن بورسعيد قاسم مسعد عليوة، فالمجموعة ترصد الكثير من المواقف الحياتية أثناء الحرب، و بعد ماكُتب عن حرب أكتوبر نتساءل هل الرواية والقصة نجحا فى جذب القارىء للإبداع الذى يتناول النصر الكبير؟ ولماذا يعزف الكتاب من الجيل الحاضر عن الكتابة عن الحرب؟.. ربما تكون الإجابة صادمة وهى -للأسف ليس هناك من يقرأ أدب الحرب من أجيالنا الجديدة.