رواية «كتيبة سوداء» هي واحدة من الأعمال الإبداعية للأديب «محمد المنسي قنديل» صدرت عن دار الشروق في القاهرة في عدد من الطبعات بدأت الأولى في سنة ٢٠١٥ فيما جاءت طبعتها السادسة في عام ٢٠١٩ وقد صدر له من قبل أكثر من عمل إبداعي نال اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبية والنقدية، من بينها «انكسار الروح» و «قمر عَلى سمرقند» و «يوم غائم في البر الغربي» وغيرها، والكاتب ممن ينتمون الى جيل السبعينيات من المُبدعين، والذي جاء بعد جيل الستينيات من القرن الماضي، مثل «بهاء طاهر وجمال الغيطاني وابراهيم أصلان وصنع الله ابراهيم» وغيرهم ،ونالت أعمالهم اهتماماً واسعاً، بسبب وجود مدرسة نقدية مصرية مُعتبرة، عَلى رأسها أسماء كبيرة مثل «لويس عوض ومحمود أمين العالم وعلي الراعي ورجاء النقاش وعبدالقادر القط» والكثير من النقاد….
«محمد المنسي قنديل» ورواية «كتيبة سوداء»
الرواية تنتمي الى أدب التأريخ ، وهو نفس الإتجاه الإبداعي الذي سبق أن كتب «قنديل» به روايته «يوم غائم في البر الغربي» وهو في ذلك لا يختلف عن الكثير من أقران جيله، أو الأجيال التي سبقته إبتداءً بالأستاذ «نجيب محفوظ» كما في «الثلاثية»، التي أرخت لجيل مابين ثورتي ١٩١٩ و١٩٥٢ وانتهاءً بـ«ابراهيم عبدالمجيد» كما في روايته البديعة «لا أحد ينام في الإسكندرية» والتي سجل فيها تاريخ مصر والإسكندرية خلال الحرب العالية الثانية…
ثلاثية نجيب محفوظ
في عدد من الصفحات شارفت عَلى خمسمائة صفحة من القطع المُعتاد في الأعمال الأدبية جاءت رواية «كتيبة سوداء» لتؤرخ لحدث حقيقي في التاريخ المصري المُعاصر، شغل نحو أربع سنوات من حياة مصر خلال القرن التاسع عشر، مابين عامي ١٨٦٣ و ١٨٦٧ ولذلك حرص «المنسي قنديل» عَلى توزيع عمله الإبداعي عَلى تسعة عشر فصلاً، تضمها أربعة أبواب، يبدأ الباب الأول بعام ١٨٦٣ وينتهي الباب الأخير بسنة ١٨٦٧، وفي نفس الوقت حرص عَلى أن تكون أركان العمل موزعة بالتساوي، فالفصول ذات الأرقام الفردية خُصصت لتاريخ ومسيرة تلك «الكتيبة السوداء» أما الفصول الزوجية فقد أفردها لتناول سيرة الـ «هابسبيرج » العائلة الإمبراطورية العريقة والتي كان ملوكها يحكمون نصف أوروبا، وأما النصف الثاني فيرتبطون معه بصلات مُصاهرة ونسب وتقسيم نفوذ!!
ويترك «المنسي قنديل» الفصل التاسع عشر والأخير موزعاً بين الكتيبة السوداء و المصير الذي آلت إليه عائلة الإمبراطور «ماكس وزوجته الإمبراطورة شارلوت» والذي يحمل عنواناً لافتاً هو «نفوس ومصائر» مُقترناً بسنة ١٨٦٧ وهي السنة التي تنتهي معها أحداث تلك الراوية الرائعة!!
الإمبراطورة «شارلوت»، و الإمبراطور «ماكس»
صفحة منسية
الحكاية التي أقام عليها «المنسي قنديل» أحداث ووقائع روايته، هي حدث حقيقي في التاريخ المصري، وإن كان في زوايا النسيان، ولذلك فإذا كان هناك فضل لتلك الرواية بالكشف عن صفحة مطوية من تاريخ العسكرية المصرية، فهذا يكفيها، فهي صفحة مُشرِقة وسجل مُشرَّف عَلى المستوى الفردي والإنساني والعسكري لتلك الكتيبة التي بلغ عدد أفرادها ٤٥٣ جندياً، وكانت تُسمى حينها، وبلغة القرن التاسع عشر «الأورطة المصرية» وبعد أن عادت بعد انتهاء مهمتها في المكسيك في ٨ يناير سنة ١٨٦٧ كانت قد فقدت من جنودها ١٤٠ فرداً، مات منهم بالمرض ٤٦ جنديا، وضاع منهم من ضاع في غابات بلاد بعيدة!!
ضباط الأورطة المصرية ودورهم في استقلال المكسيك عام 1863
التاريخ يقول أن «نابليون الثالث» إمبراطور فرنسا العجوز، وزوج الإمبراطورة «أوجيني» طلب من «سعيد باشا» والي مصر -والذي منح للفرنسي «فرديناند ديليسبس» حق امتياز حفر قناة السويس – طلب منه مُشاركة مصر في حرب المكسيك، وفي إطار تحالف يضم بريطانيا وأسبانيا والنمسا وبلجيكا لإجهاض الثورة الشعبية المكسيكية المُناهضة للإحتلال الأسباني لبلادهم، فما كان عليه سوى السمع والطاعة، وإرسال جنوده في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل!!
نابليون الثالث وأوجيني
كانت الأوضاع الدولية آنذاك تنُذر بحرب بين شاطئ الأطلنطي، بين الولايات المتحدة، قوة الإستقلال الجديدة، وأوروبا، القارة العجوز، فقد طُردت بريطانيا بعد حرب الإستقلال الأمريكية، من أراضي العالم الجديد، واشتعل لهيب الثورة في المكسيك الجارة الجنوبية، ونهض شعبها لحرب استقلال جديدة ضد التحالف الأوربي العجوز الذي يضم دولاً وشركات ومصالح، تحالف استعماري يتحرك بمباركة مُطلقة من سلطة بابا الفاتيكان «بيوس التاسع» والذي تحتكر شركاته مناجم الذهب والفضة وعشرات الآلاف من هكتارات زراعية وغابات لا حدود لها بإسم الكنيسة الكاثوليكية!!
أيام الدم والعنف
أوضاع تحدث عنها البكباشي «محمد أفندي ألماس» قائد الكتيبة المصرية، عندما سأله صحفي فرنسي بعد انتهاء الحرب في المكسيك، كيف رأى تلك الحرب البعيدة بقوله: «كُنا مُجرد بيادق صغيرة فوق رُقعة واسعة من الشطرنج، لم نصل أبداً الى المُربع الأخير»!!
وبلغة الروائي المُبدع الذي يُجٍسد مشاعر بطله، يصف «المنسي قنديل» ذلك الإستنتاج وتلك الرؤية الواعية لقائد الحملة المصرية بكلمات واضحة بقوله: «بأن ما يتبادر الى ذهن، محمد أفندي ألماس، هو شعور ليس بعيداً عن الحقيقة، فهو يتحدث عن إحساس الإفتقاد على الذين رحلوا من رجاله، وكان شاهداً عَلى موتهم، شاهداً على أيام ضائعة مليئة بالعنف والدم، انتهت الحرب عَلى ما لا يساوي كل هذا الهُراء، تُرِيد باريس أن تكَرِّمَ الجنود الذين حاربوا معها، ويستعد الإمبرطور نابليون الثالث لاستقبالهم، أي سخرية مريرة هذه؟!!
الأورطة المصرية في المكسيك 1863 – 1867
أن يتركوا كل هذا العدد من الموتى، ويمارسوا كل هذا القدر من الوحشية، وفي النهاية لا يكون في وسعهم سوى الانسحاب، لقد تّرّكّ خلفه- بالنسبة للأورطة المصرية فقط- مائة وأربعين قبراً، غير الذين أُلقيّ بهم الى البحر أو أسروا أو هربوا عبر الغابات!!
مع صدور أمر الإنسحاب للقوات الفرنسية، وتقدم القوات المكسيكية التي يقودها «بنيتو خوارز» تجسدت الصورة النهائية لتلك القوات التي كان يُفاخر بها «نابليون الثالث» أقرانه من أباطرة وملوك أوروربا، كان الموقف مروعاً ومُذلاً، فقد سادت حالة من الرُعب، حيث بدأ جنود فرنسا يعرضون خيولهم للبيع بأثمان بخسة، وتم تفجير المدافع الثقيلة التي ألقت عَلى مدن المكسيك وقراها أطناناً من حمم النار والرصاص المصهور، ومات عشرات الآلاف من الفقراء، وينجح رجال «خوارز» في اختطاف اثنين من الضباط الفرنسيين، وعندما تحاول القوات المصرية، تخليصهم من أيدي الثوار، يخترقون شوارع المدينة، ويذبحون ثلاثة من أفضل جنوده، بخيت ومبروك وسودان، يذبحونهم في مواقعهم!!
«تِصبح الليالي أشد ظُلمة والقمر مّحاقاً وترحل النجوم من صفحة السماء، يغيب الضوء عن العالم، وتوقظ الظُلمة كل كوامن العنف»
يُدرك البكباشي «محمد أفندي ألماس» بعد أيام وليالي القتل والدم والعنف، أن ما ينتظره من كوابيس النوم كل ليلة هي قلب العذاب والرعب، وحتى وهو في فراشه!!
أن جنوده الذين ماتوا، يستيقظون كل يوم في الظلام ويشاركونه وسادته، يحفظ ملامحهم جميعاً ويناديهم بأسمائهم كل ليلة !!!…)
يتبع