اعتبر الفقه السياسي التقليدي أن “الدار” هي وعاء حفظ الإسلام، لذلك اجتهد مجتهدوه، خاصة الفقهاء الأحناف في تعريفهم لدار الإسلام ودار الكفر، واعتبروا أن الدار التي يُحكم فيها بالشريعة هي دار الإسلام، بينما الدار التي لا يُحكم فيها بشريعة الإسلام هي دار كفر.
ودار الكفر تلك إما أن تكون على علاقة عداء بدار الإسلام فهي هنا دار حرب مقصودة بالجهاد، وإما أن تكون دار عهد وموادعة فهي هنا دار سلم وصلح، لا تقصد بحرب وتلتزم الدولة الإسلامية معها بعهودها ومواثيقها.
هذه كانت محاولات الفقهاء التقليديين لبناء أسس حركية للتعامل مع الواقع الجديد الذي يواجهه عالم الإسلام، فكيف يمكن التصرف في العلاقات مع الدور الأخرى أو القوى الدولية المتاخمة لدار الإسلام؟ وكيف يمكن التصرف في البلدان التي تم فتحها؟. هنا اجتهد المجتهدون لمحاولة حل هذه الإشكالات العملية ولتحديد موقف أو رؤية من العالم حولهم بعد خروجهم الواسع إلى بلدان جديدة وسقوط إمبراطوريات كبرى كالرومانية والفارسية ودخول ثقافات وشعوب وأعراق وقبائل ضمن حدود دار الإسلام الجديدة المتحركة المتسعة دوما.
اجتهاد الفقهاء القدامى في هذا الباب كان إجابة علي أسئلة متصلة بعصرهم، وهو اجتهاد سياسي يبني لصانع القرار تصورا يمكن الأخذ به لمواجهة مشكلة من أجل حلها، ومن ثم، فهو اجتهاد لذلك العصر، لا يلزمني كباحث أو كدولة في عصرنا الحاضر، ذلك أن العالم تغير، وعلاقاته لم تعد كما كانت منذ أكثر من ألف عام أو يزيد، كما أن التصور الحاد أو الثنائي لطبيعة العلاقة بين دار الإسلام وغيرها من الدور التي كتب عنها الفقه التقليدي عرف تحولات وأشكال متنوعة لم تأخذ الطابع الصراعي دوما، فكانت هناك علاقات تحالف بين دول إسلامية ودول غير إسلامية في مواجهة دول قد تكون إسلامية أو غير إسلامية.
ومع سقوط الخلافة، وغياب الدار أو المؤسسة التي كانت تمثل الإسلام من الناحية السياسية، فإن الإسلام بقي ولم ينته، ويذهب أهل السنة إلى أن الحفظ للإسلام مرهون ببقاء “الذِكر” وببقاء الأمة ذاتها التي هي حافظة الإسلام وحاميته، “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. ومع وجود قانون دولي وأمم متحدة وتواضع العالم على قوانين تحكم العلاقات بين الدول والأمم التي هي أعضاء في المؤسسة الدولية فإن مفهوم السير القديم أي علم العلاقات الدولية القديم الذي وضعه الفقهاء تراجع ليحل محله القانون الدولي الذي تلتزم به الدول جميعا وتحكمه قاعدة التعامل بالمثل.
لم تعد دار الإسلام محددة معروفة بل تلاشت حدودها وأصبحت الأقليات المسلمة منتشرة وموجودة في العالم كله، حتى إنه ربما لا يوجد بلد في العالم إلا وفيه أقلية مسلمة، كما لا يوجد بلد في العالم إلا وله مواطنون يتاجرون ويسيحون في البلدان الإسلامية، يدخلون تحت معنى “المستأمنين” الذين لا يجوز التعرض لهم بأذى، وهم في حماية المسلمين ودولهم. صرنا بإزاء شكل جديد للعالم، الدار فيه واحدة، ومصير الإنسانية جميعها مشترك، ولم يعد ممكنا أن تحمي دار مواطنيها دون الآخرين لأن المصير مشترك والخطر جزء مقسوم.
الإنسان اليوم هو حامل الإسلام وحاميه، لا الدار القديمة، وكل مسلم يعيش في أي مكان في العالم هو حامل لمسئولية الإسلام معبرا عن قيمه حيثما حل ورحل وحيثما وُجد وأقام. أشير هنا إلى “محمد صلاح” لاعب الكرة المصري، وهو يعبر عن الإسلام خلقا وفعلا، وترك تأثيرا كبيرا علي محبيه في إنجلتر ودول العالم الغربي، باعتباره مسلما يحمل قيم الإسلام، وهو هنا يقوم مقام الدار التي تكلم عليها الفقهاء القدامى.
الإنسان حامل الأمانة، هو اليوم البديل عن الدار في حمل رسالة الإسلام والتعبير عنها “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان…”. كل مسلم في العالم هو حامل رسالة دينه إلى العالمين الذين هم أمة للدعوة تنتظر من أمة الإجابة أن تقدم نموذجا وقدوة لتقديم الإسلام في أحسن صورة.