من ذكريات الطفولة التي عاشها كاتب هذه السطور خارج حدود الوطن، حيث شاءت الظروف أن أنشأ في بلد عربي شقيق، امتلاء فصل الدراسة بطلبة من كافة الأقطار العربية.
أذكر بالذات من رفاق الدراسة٬ زملائي من أبناء السودان الشقيق، أذكر تحديداً قفشاتهم الذكية، أذكر بداية تعرفي على لهجتهم القريبة إلى اللهجة المصرية، أتذكر أول مرة قلت فيها لفظ “زول” ولم أكن أعلم بعد أنها تعني “الرجل” بلهجة أهل السودان.
أذكر أستاذتي السودانية ذات الملامح الطيبة والوجه الصبوح وهي تمتدح قدرتي على إلقاء الشعر وكتابته.
أذكر أول مرة أطلع فيها على أدب الطيب صالح خلال دراستي الجامعية حين انتقيت من معرض الكتاب روايته “عرس الزين” وتصفحتها وأنا أشعر وهو يستعرض طبيعة الحياة في قرية سودانية صغيرة على ضفاف النيل، أنه يصف قرية مصرية صميمة قد تكون في الدلتا أو في قلب الصعيد.
أذكر تمايلي ورقصي على أنغام سيد خليفة الذي جمعته علاقة صداقة بعندليب مصرعبد الحليم حافظ وهو يتغنى بالمامبو السوداني وهو اسم آلة موسيقية ولون موسيقي؛ ثم ضحكي وقهقهتي خلال استماعي لنفس المطرب ذو الصوت الجميل وهو يخاطب أحبابه بلهجته الطريفة قائلا “ازيكم…كيف حالكم…أنا لي زمان ما شفتكم”.
أتذكر أول مرة استمعت فيها إلى مطرب السودان الأول محمد وردي وهو يتغنى بكلمات الشاعر الكبير محمد الفيتوري، ويغني للصبح الذي أصبح “فلا السجن باق ولا السجان”، وهي القصيدة التي باتت نشيد الانتفاضة الشعبية عام ١٩٦٤ التي أطاحت بنظام الجنرال عبود.
ولا يفوق أداء وردي لهذه الأغنية سوى تقديمه لأغنية أخرى من كلمات شاعر آخر لا يقل قيمة وقامة عن الفيتوري وإن اتخذ من العامية السودانية مداداً لأشعاره وهو معين شريف، حين قدم قصيدته أو قل رسالة حبه للشعب التي أسماها “الشعب حبيبي وشرياني” والتي قدمها لاحقاً بلحن مغاير محمد منير في مصر.
أذكر زملاء العمل في الخارج من الإخوة السودانيين الذين اجتمع فيهم حسن المعشر والثقافة الموسوعية.
أذكر استمتاعي الشديد بقصيدة الشيخ البرعي أحد رموز التصوف في السودان،وما أكثرهم، وهو يشيد ب “مصر المأمنة” التي من الله عليه فيها بالشفاء والتي شرفت بأن ضم ثراها آل بيت رسول الله (صلعم) “الواضح سرهم” على حد تعبير القصيدة، والتي ينصح الشيخ محبيه ومريديه بأن “يزورهم بمحبه” كي “يشرب من درهم” وأن يبذل أمواله “لجناهم برهم”.
أذكر انكبابي على عشرات المواقع والمقالات للاطلاع على تجربة الشعب السوداني في انتفاضاته المتتالية أعوام ١٩٦٤ ثم ١٩٨٥وأخيراً وليس آخراً عام ٢٠١٩.
https://www.youtube.com/watch?v=6QVI-8oVDzY
أذكر متابعتي لأخبار تلك الانتفاضة بشكل يومي تقريباً، أذكر تأثري الشديد بمشهد أهل السودان من المتظاهرين السلميين وهم يرددون قصيدة محجوب شريف “الوالدة مريم”، والدة الشاعر التي صارت بفضل القصيدة رمزاً لكل الامهات.
أذكر احتفاء تلك الانتفاضة بنساء السودان وتلقيبهم ب”كنداكات” تيمناً بملكه سودانية قديمة.
أذكر الوعي الفطري المدهش لدى البسطاء من أهل تلك البلاد الذي تبدى حين رفضوا أن يؤذوا جنوداً انقلبت بهم مدرعتهم رغم أن هؤلاء لم يتورعوا عن إطلاق النار عليهم، أذكر مسارعتهم لنجدة الجنود وأحدهم يهتف بالجندي “نحن اخوتك أيها البليد.. فلم تريد قتلنا؟”
أذكر كل ما سبق وأكثر وأنا أتابع الأخبار الواردة من أرض السودان والصور التي تبثها القنوات لمحنة أهله التاريخية وهم يقاومون بأجسادهم فيضاناً للنيل لم يسبق له مثيل منذ قرن من الزمان؛ وهو يهدم ديارهم وينال من أرواحهم وأملاكهم.
أذرف دمعة على السودان الحبيب، ولكن أؤمن تمام الإيمان أن شعبه العظيم قادرعلى أن يتجاوز هذه المحنة ويعيد بناء بلاده كما فعل المرة تلو الأخرى على مدار تاريخه الطويل.
فأهل السودان هم حقاً كما تصفهم كلمات نشيدهم الوطني الذي يتغنون به كل يوم “جند الله…جند الوطن