منذ نحو عشرين عامًا٫ وفي ندوة شهدها معرض القاهرة للكتاب حول فن السينما بحضور عدد من صناع الأفلام في مقدمتهم الكاتب الكبير وحيد حامد٫ بدا أحد الحاضرين محتدًا للغاية على هؤلاء المبدعين٫ متهمًا إياهم ب”إفساد الشباب” من خلال ما يقدمونه على الشاشة الفضية.
فكرة “إفساد الأجيال” وتحميل مسؤوليتها لصناع الفنون المختلفة : السينما٫ المسرح٫ الموسيقى٫ الدراما التلفزيونية..إلخ ليست بالجديدة٫ بل تبدو وكأنها فكرة يتم استحضارها أو إعادة استخدامها بمعنى أصح كلما واجه المجتمع معضلة أخلاقية ما ويتسأل الجمهور عن سببها فيتم تقديم الفن وصناعة السينما ككبش فداء تفاديًا لمزيد من الأسئلة.
ولعل إحدى تجليات هذه الفكرة حاليًا هو ما يردده البعض سواء من خلال القنوات الإعلامية المختلفة أو من خلال مواقع التواصل حول مسؤولية هذا الممثل أو ذاك المطرب عن إفساد الأخلاق من خلال أعمالهم.
والطريف هنا هو أن هذه الحجة ليست قاصرة على مجتمعاتنا العربية وإنما تمتد إلى عاصمة صناعة السينما في العالم أي إلى هوليوود٫ حيث يحمل مخرج أشتهر بأفلام العنف مثل الأمريكي كوينتن تارانتينو مسؤولية إفساد جيل كامل من المراهقين والشباب في الولايات المتحدة بسبب ما تحمله أفلامه من مشاهد عنف دموي.
في رأيي الشخصي٫ إن هذه الفكرة من السطحية بحيث إنها لا تصمد أمام أي اختبار حقيقي لمصداقيتها٫ فعلى سبيل المثال لا الحصر٫ فقد ظل الفنان الراحل فريد شوقي يقدم أفلام الحركة التي امتلأت بمشاهد العنف على مدى نحو ثلاثين عامًا تقريبًا من الأربعينيات وحتى نهاية الستينيات.
إلا أن أفلام شوقي لم تتسبب – وفقًا لهذا المنطق- في موجات من العنف في المجتمع ولم يقلد الشباب ما شاهدوه في تلك الأفلام.
لكن ذات المجتمع عرف أطرادًا في العنف في مرحلة لاحقة سواء اللفظي متمثلًا في البذاءة وتدني مستوى الحوار أوالجسدي متمثلًا في ملاحقة النساء في الطرقات العامة ولم تكن السينما أو الأغاني هي المتسبب في ذلك وإنما تسبب في ذلك مناخ عام ساعد على انتشار هذه الظواهر.
https://www.youtube.com/watch?v=jp0nDlDUot4
إذ لا يمكن فصل ظاهرة كالمعاكسات مثلًا عن تفشي البطالة وتأخر سن الزواج عند الشباب كنتيجة لذلك ناهيك عن أزمة العثور على مكان للسكن وإنشاء الأسرة.
إلا أن استخدام الفن وصناعة السينما كـ”شماعة” لكافة خطايا المجتمع هو بمثابة تفادي للخوض في كافة الأزمات المشار إليها والاكتفاء بتفسير شديد السطحية ولا أبالغ إن قلت إنه يصب في صالح ثقافة تم تمهيد الطريق لها منذ سبعينيات القرن تبغض الفن وأهله وتعتبرهم بالضرورة “أشرارًا” وتسعى لشيطنتهم بكافة الطرق الممكنة.
الأمر ذاته ينطبق على المثال الأمريكي المشار إليه في بداية هذا المقال٫ إذ يصعب على منتقدي تارانتينو أن يعترفوا أن العنف المقدم في أفلامه ليس سوى انعكاسًا لعنف درجت الولايات المتحدة على ممارسته حتى قبل نشأتها كدولة عام١٧٧٦ بحق السكان الأصليين والأفارقة الذين تم جلبهم من القارة السمراء وهو عنف لازالت تظهر تجلياته اليوم بين الحين والآخر فيما تمارسه قوات الأمن بحق الأمريكيين السود وفي ارتكاب الطلبة لمجازر بحق زملائهم.
إلا أن الاعتراف بهذا التاريخ يعني بالضرورة فتح ملفات شديدة الحساسية من نوعية تمويل قوات الأمن الأمريكية ونوعية تدريبها وكيفية تعاملها مع الأقليات ناهيك عن سطوه لوبي السلاح التي تمنع -بالضرورة- أي مناقشة جادة حول السياسة الخاصة بامتلاك الأسلحة النارية.
ولصرف النظر عن كل ما سبق فمن الأسهل بكثير أن يلام مخرج أفلام عنف على كل هذا بدلًا من إعادة النظر في النظام وسياساته.
إن إصرار البعض سواء في مجتمعنا أو في مجتمعات أخرى على حصر ما حل بالأخلاقيات والقيم في بضع أغنيات أو أفلام يقدمها حفنة من المشاهير هو تبسيط مخل لقضايا معقدة وهو تشخيص خاطئ للمرض يؤدي بالضرورة إلى حلول وعلاجات خاطئة من قبيل “تحريم الفن” أو المنع والمصادرة باسم الرقابة أو باسم الحرص على القيم والأخلاقيات كما حدث من قبل مع أفلام أو روايات أثارت جدلًا بسبب مضمونها الجريء أو مثل قرار منع ما يعرف بأغاني “المهرجانات” تحت مسمى الحفاظ أوحماية “الذوق العام”٫ وهو لعمري سلاح لا يؤدي إلى أي علاج حقيقي بل لا أبالغ إن قلت إنه يؤدي إلى تفاقم المرض.